كتاب الموقع

كتبت ليندا حمورة | على حافة الخمسين: حين يزهر العمر في وجه الغروب


ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية*

العمر ليس إلا ومضاتٍ من نورٍ تطويها الأيام بصمتٍ عميق، نكتب فيها سطورنا، بعضها يُخلَّد في ذاكرة الزمن، وبعضها الآخر يُطوى معنا في التراب، كأن لم نكن.

العمر — ذاك الرقم الذي يتسلسل عاماً بعد عام — لا يزيدنا إلا اقترابًا من الأبدية.
ننظر إلى مرايا أرواحنا، فنرى انعكاس التعب ينمو، والسأم يتراكم كغبارٍ فوق مرآة العمر.
في العشرين، نغني للفرح ولا نلتفت إلى ظلال الموت التي تتوارى خلف أكتافنا، نعيش اللحظة كأن الخلود حليفنا.
أما حين تطأ أقدامنا مشارف الخمسين، فإن سكين الزمن يغرس أنيابه في خاصرة الأحلام، وتبدأ مسيرة الفقد، تتساقط الأرواح من حولنا كما يتناثر عقد اللؤلؤ حين ينفرط خيطه.

نزور الأحياء بأرجلٍ بطيئة، فيما أرواحنا تتسابق إلى المقابر، كأننا نطلب الطمأنينة بين من سبقونا.
تتردد في قلوبنا همسات حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين.”
فنحسب السنين المتبقية وكأننا نعد أنفاسنا الأخيرة.

نعيش بين الخوف من الرحيل، والحزن على من غادروا، ونسأل أنفسنا في صمتٍ موجع: من سيزرع وردةً على قبري؟ من سيقرأ لي الفاتحة في ظلمة الوحدة؟

لكن، أية أكذوبة شيطانية تقنعنا أن الخمسين مقصلة للأمل؟
من أوهمنا أن النور يخفت حين تغرب شمس العمر قليلاً؟
الحياة ليست أرقامًا نحسبها، بل أنفاسًا نملؤها بالشغف والحب.
الخمسون ليست قيدًا، بل جناحًا جديدًا لمن عرف كيف يحلّق فوق الألم.

يقول نيتشه:

“لا تمشِ على الأرض إلا وأنت تعتقد أن لك جناحين.”
وها نحن في الخمسين، نحمل أجنحة الحكمة، نلمس عمق الحياة كما يلمس النحات قلب الصخر ليصنع منه تمثالاً خالدًا.

إن الذي وهب النهر قدرته على الجريان حتى آخر نقطة، وهبنا القدرة على الحياة حتى آخر نبضة.
الخمسون ليست موتًا مؤجلًا، بل ميلادًا آخر؛ ميلادًا تشتد فيه الجذور، وتعلو فيه الأغصان نحو سماء أوضح.

فلنغلق نوافذ التشاؤم، ونفتح صدورنا لرياح الفرح.
فلنحيا كل يوم كأننا نولد من رحم النور من جديد، نبتسم رغم أنين الجراح، ونغني للحياة حتى وإن اختلط صوتنا بدموعنا.
الحياة منحة لمن يعرف كيف يحتضنها، لا لمن يخشاها.

فليكن العمر مهما طال أو قصر، قصيدةً نكتبها بمداد الأمل، وزهرةً نرويها بعرق الكفاح.
في الخمسين، نحن لا نكبر، نحن نزهر من جديد
*نائب رئيس تحرير موقع المراقب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى