ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية*
في موسم الانتخابات البلدية في لبنان، تكاد الأنفاس تختنق من كثرة ما يعبق الجو برائحة “الطبخات” السياسية. رائحة لا تشبه توابل الأرض، بل توابل المصالح، تُنثر بسخاء فوق وجوه المرشحين والناخبين على حدّ سواء. صورٌ معلّقة على الجدران، في الشوارع، وعلى أبواب البيوت، لأشخاص بعضهم تعرفه المدن، وبعضهم تعرفه الأزقة فقط، وبعضهم ما زال ينتظر أن يُعرّف عن نفسه عبر مكبرات الصوت والخطابات الرنانة.
عجيبٌ هذا التزاحم على مقاعد البلديات كأنها عروش الممالك!
مضافاتٌ تُفتح، مقاهٍ تضج، بيوت تُزرع فيها الوعود كما تُزرع سنابل القمح في مواسم المطر. لقاءات ليلية، مشاورات نهارية، تحالفات تنهار وأخرى تولد بين ساعة وأخرى، حتى ليخيّل إليك أن البلدة الصغيرة تحولت إلى قاعة برلمان مصغرة.
الأدهى أن المال …سيد المشهد … يسير أمام المرشحين مثل ظلٍ لا ينفك عن صاحبه. أكياسه تُعدّ، دفاتره تُسجل، والضمائر تعرض للبيع تحت شعارات براقة. ولعلّ السؤال الذي يفرض نفسه:
إذا كان بعض المرشحين يدفعون ما يدفعون لشراء الأصوات وكأن الكرسي سيتحوّل لهم إلى منجم ذهب بعد الفوز، فهل البلديات شجرٌ تثمر دراهم ودنانير؟
أليس الأجدى أن تُصرف هذه الأموال مباشرةً لتنمية القرى بدل أن تُدفع على مذبح الأصوات؟ ألم يقل الإمام علي (ع): “من وضع المعروف في غير موضعه كان ما بذل سدى”؟
في الواقع، لو أن حبّ الخدمة هو المحرك الأساسي، لكانت المشاريع أُقيمت قبل الانتخابات لا بعدها، وكانت الأموال رُصِدت لدعم المدارس والطرقات والمزارعين، لا لشراء صمت الناس، ولاستئجار أصواتهم لبضعة ساعات.
وليس بعيدًا عن المشهد، نشهد في معظم المناطق اللبنانية نماذج حية لهذا السلوك. في إحدى القرى الجنوبية مثلًا، رُصدت حملات انتخابية كلفت عشرات آلاف الدولارات، فيما أبناء البلدة يعانون من نقص في المياه والكهرباء. وفي الشمال، توزع الهبات والهدايا وكأنها “قرابين” انتخابية، وفي البقاع تُعقد الصفقات السياسية كما تعقد صفقات الأرض.
وهنا، يعود بنا الوجدان إلى بيت للشاعر أحمد شوقي:
“وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتماً وعويلا”
فأين الأخلاق حين يصبح المنصب غاية لا وسيلة؟ وأين المسؤولية حين يكون الكرسي مطية لطموحات شخصية لا لخدمة الناس؟
إن الانتخابات البلدية، في جوهرها الحقيقي، يجب أن تكون مناسبة لاختيار خدام القرى لا سادتها، بناة المستقبل لا سماسرة الفرص. ولكن، طالما أن بعض النفوس تعتاش على زراعة الولاءات الموسمية، فسنبقى نشتم رائحة “طبخات” الانتخابات بدل أن نشم عبير الإنجازات والتنمية.
لعلّنا بحاجة، قبل أن ننتخب مجالس جديدة، إلى أن ننتخب ضميرًا جديدًا للبلاد .
*نائب رئيس تحرير موقع المراقب