كتاب الموقع

كتبت ليندا حمورة | التحرير… عودةُ الروح من الأسر، واستردادُ الكرامة من فم التنّين.

ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية*

قد تكون كلمة “تحرير” مجرد حروفٍ أربعة لمن لم يُكسر قلبه على بوابةٍ تُغلق في وجهه رغم التصاريح، لمن لم يتعفّر جبينه بتراب معبرٍ يبيعُ المارّة شبرًا من الذاكرة لقاءَ إذنٍ بالمرور، لكنها عند أبناء الجنوب… عند من خَبِروا لذعة الغياب، وناموا على صوت القصف واستفاقوا على صدى الرحيل، هي الكلمة التي أعادت للأرض لونها، وللتراب اسمه، وللبشر ملامحهم التي شوّهها الاحتلال.

كنتُ طفلةً، لا تعرف السياسة، ولا تفهم من الدنيا إلا حضن أمّها ودفءَ بيتها، حين اجتاح العدو بحمدون، وامتدّ لهب الحرب حتى سرق منّا جدران الطفولة وأبواب الأمن. تهجّرنا كما تهجّر آلاف اللبنانيين، والتقينا بميس الجبل، ضيعتي الجنوبية، التي كانت آنذاك تحت وطأة الاحتلال… وكان الاحتلال لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يزرع في كل زاويةٍ من زواياها ظلًا ثقيلًا اسمه الخوف.

أذكر المشهد كما أذكر اسمي، كنتُ على شرفة المنزل، حين سمعتهنّ، كلماتٌ غريبة، مرّت كالرصاص في أذني، ونظرتُ فإذ بجنودٍ يزحفون على الإسفلت، مدجّجين بالسلاح، تتقدّمهم اللامبالاة ويُختم صفّهم بجنديٍّ يسير إلى الوراء ليحرس الفراغ. لم أرتعب، فقد اعتادت عروقي على رعشة القذائف، واعتادت أذناي على هدير الطائرات، لكنّ المفاجأة لم تكن في حضورهم، بل في فرارهم… حين اقترب منهم حمار.

نعم، حمارٌ أعزل جعلهم يفرّون كأنهم أبصروا أسدًا من جنّ، فعدوتُ إلى والدي متسائلة، فأجابني: “ربما حسبوه مفخّخًا!” … وعلمتُ حينها أنّ من يملك دبّابةً قد يخشى ظلّه، وأنّ من يحتلّ أرضك، لا يملك بالضرورة شجاعة مواجهتك… بل قد يُهزم بصهيلٍ خاطفٍ من فمٍ أخرس.

لم يكن الاحتلال فقط في الجنود والدبابات، بل في الأبواب المخلوعة، في الطرقات المقطّعة، في العقول المروّضة بالخوف، كانوا يدخلون البيوت دون إذن، ويصادرون شبابنا، يُدرّبونهم في معسكرات الذلّ ويطلقون عليهم اسم “جيش لحد”، كأنّ الخيانة يمكن أن تُكافأ ببدلةٍ عسكرية.

لكنّ للحقّ صوتًا لا يُخرس، وللكرامة جذورًا أعمق من سطوة الغازي…
دماءٌ كثيرة، وشبابٌ جعلوا من أجسادهم جسورًا تعبر عليها الأرض إلى حريتها، اختارت المقاومة أن تمضي وحدها، عزلاء من الدعم، عاريةً من الغطاء، إلا من إيمانها بعدالة قضيتها، وخلفها أمٌّ تُسلّم ابنها للبندقية وتقول له: “عُدْ إمّا منتصرًا أو ملفوفًا بالعلم.”

وفي الخامس والعشرين من أيار عام ألفين، انكسر القيد…
تحرّر الجنوب، وعاد الوطن إلى جغرافيته، وعادت الجغرافيا إلى معناها…
لم يعد الجنوب خطًا على الخريطة، بل صار قُبلةً للكرامة، ونشيدًا للنصر.

فهنيئًا للبنان بجنوبه النابض بالعزّ،
وهنيئًا للأرض التي عادت إلى أصحابها،
وهنيئًا للأمهات اللواتي كتبنَ المجدَ من حليب الصبر،
وكل عامٍ والجنوب حيّ فينا، بترابه، بأبطاله، وبحروف “التحرير” التي لن تشيخ.
*نائب رئيس تحرير موقع المراقب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى