عبير بسام | كاتبة وباحثة
من المفيد أن ندرك حجم التحضيرات التي أنجزها الغرب من أجل إعادة احتلال الدول العربية وإضعافها وتقسيمها. منذ بدأ بتوزيع تركة الرجل المريض وصولاً إلى جهنميات تقسيمها بوساطة “ربيع عبري” إلى أشلاء يمكن التحكم بها. تركة تجعلنا بما ضمته من أجزاء من أوروبا وامتدت شرقاً إلى دول بحر قزوين، نعيد التمعن بالقراءة. تركة وقعت فيما بعد بيد عدو جاهل أمعن في تجهيل أمتنا حتى وصلنا إلى ما نحن عليه، وقد حان الوقت لنعيد قراءة التاريخ لننهض من جديد.
ما حصل من احتلال للدول العربية منذ ستينيات القرن التاسع عشر، واحتلال فلسطين وإقامة استعمار استيطاني صهيوني لم يكن وليد ساعته بالتأكيد، ولكن هو عملية ودأب مستمر منذ فشل الحملات الصليبية في العام 1291، حين سقطت آخر إمارة صليبية في عكا في العام 1291، والتي ابتدأت على بلاد الشام وفلسطين في العام 1096. مئتا عام استمرت خلالها العمليات “باسم الصليب”، ولكنها في الحقيقة ذات أهداف وأطماع واضحة: الاستيلاء على كنوز الشرق، أولاً، والسيطرة على طريق تجارة الحرير والتوابل، وخاصة بعد التعرف القريب عليهما بعد الحملات الصليبية ثانيًا، وأخيراً، صناعة إمارات صغيرة “للمتبطرين” من أبناء الأمراء واللوردات الذين لا ثروة لهم، لأنه بموجب القانون في أوروبا، يرث الابن الأكبر لقب أبيه وثروته ولا يبقى سوى الفتات لباقي الأخوة.
وبعد فشل الحملات الصليبية، والتي كانت أهم نتائجها انفتاح الداخل في الغرب على العالم، بدأ عصر النهضة في أوروبا. وابتدأت المنهجية الجديدة في التفكير. ولكن لم يغب عن البال الأوروبي الاستعماري الفكرة المغرية دوماً بإعادة استعمار الشرق. وهي الفكرة التي دغدغت الإغريق، ومن ثم الرومان ومن ثم الصليبيين. ثم انطلقت حملات الاستعمار الجديد مع حملة نابليون بونابرت على مصر والشام 1798- 1801، الحملة التي فتحت عيون البريطانيين على خطورة سيطرة الفرنسيين على كل من مصر وساحل فلسطين. مع العلم أن حملة نابليون جاءت في مرحلة كانت فيها فرنسا مفلسة وخلال حكومة الدفرسوار، أو الحكومة الإدارية ما بعد الثورة الفرنسية، والتي مولتها مجموعة من اليهود مقابل وعد نابليون بإنشاء دولة يهودية في فلسطين، وذلك بحسب الباحثة خيرية قاسم في كتابها “النشاط الصهيوني في الشرق العربي وصداه”، وغيرها من الباحثين، اذ أبدى زعماء اليهود الموافقة على هذا العرض المغري، وتم فعلاً تمويل حملة حكومة الدفرسوار المفلسة على مصر والشام.
وفي معرض الحديث هنا علينا أن لا ننسى أن مصر لم تسلم من الحملات الصليبية، وقد تعرضت لحملتين في عهد الدولة الأيوبية قادتهما فرنسا، واللتين عرفتا بالحملة الصليبية الخامسة بقيادة “جان دي برس” في العام 1250. أي انه تاريخياً، كان الصراع الاستعماري الأوروبي على منطقتنا ممنهجاً ومخططاً له، وذا أهداف اقتصادية هامة ومن أهمها السيطرة على الموقع الجغرافي الهام في وصل خطوط التجارة العالمي، واليوم في وصل خطوط الغاز والنفط إلى أوروبا والعالم.
وما زالت الأهداف الاقتصادية والمال والسيطرة على مقدّرات الشرق والغرب العربيين وأفريقيا أساس العلاقات مع الاستعمار الغربي، مهما بات شكله اليوم أو اسمه أو طريقة تنفيذه، وليست دولة الكيان المارقة إلا أحد هذه الأشكال وأهم أهدافها تحجيم الخسائر المادية والبشرية على أوروبا والغرب في مستعمراته الاستيطانية في أمريكا الشمالية واستراليا.
ليس هذا السرد التاريخي من أجل العرض فقط، إنما هو محاولة من أجل فهم دور دول أوروبا المفلسة في البحث عن سبل تحسين الاقتصاد فيها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو مقدمة لفهم الدور البريطاني في تكريس احتلال استعمار استيطاني تحت مسمى الدين، سواء كان المسيحي أم اليهودي. دور لعبته بريطانيا بحرفية ومهنية وبني على أسس علمية، تداخلت فيها مختلف أنواع الدراسات السياسية والاجتماعية والثقافية والجغرافية والتاريخية والطبوغرافية والهندسية واللاهوتية وحتى علم الإنسان. تم ذلك بواسطة واحدة من أهم المؤسسات التي ما تزال حية حتى يومنا هذا، والتي ما تزال فاعلة وذات دور حساس، مع أنها كانت وما تزال تعمل في الظل.
من المؤسسات التي كانت فاعلة في تكريس الاستعمار، “مؤسسة تمويل فلسطين”. كان الهدف الابتدائي الأساس للمؤسسة إعطاء التفسير العقلاني والعلمي للعهد القديم، اذ تم اطلاق المؤسسة في 22 حزيران/يونيو 1865، وكانت قد ابتدأت في تلك المرحلة الثورات العلمية والصناعية في أوروبا. سبق بيان اطلاق المؤسسة في 8 شباط/ فبراير 1864 تعليق لاذع من “اللجنة القضائية للمجلس الخاص” في بريطانيا والتي انتقدت الأعداد اغير المنطقية لـ”يهود السبي” في العهد القديم، وكأنها مست بالمحرمات. ويقول رئيس الأساقفة، وليام تومبسون، في احتفال الذكرى الخمسين لتأسيس المؤسسة، لقد قمنا بعمل مهيب من أجل البحث عن الحقيقة. ويكمل، مع أن عمل المؤسسة ليس هدفه الدين، ولكنه ابتدأ بالصلاة التي تلاها أسقف لندن الأعلى، اذ كان العمل متعلقًا بـ”الأرض المقدسة”، أي فلسطين. فالعمل كان مرتبطًا بالمقاربة العلمية للكتاب المقدس، والتي كانت مسألة خلافية تسببت بالجدل المرير على نطاق واسع في داخل كنيسة إنكلترا وخارجها.
وبسبب هذا الخلاف العلمي انطلقت الحملات العلمية للدراسة على كافة الصعد، علم الأرض، علم المساحة، علم الإنسان، علم الإجتماع، علم السياسة، علم اللاهوت ودراسة المواقع المقدسة التي ذكرها العهد القديم. ولكن أهم ما حدث في تلك الفترة هو تصوير المواقع المقدسة، وإعادة إصدار إنجيل الملك جيمس المصور للأطفال، اذ ابتدأ فن التصوير حديثاً في تلك المرحلة، وترافق مع اختراع المطبعة قبل ذلك بستين سنة تقريباً. وتم اصدار البطاقات البريدية المتعلقة بالأرض المقدسة، وبالشرق، والتي كانت تطبع في انكلترا ويعاد بيعها في فلسطين للحجاج، ويقوم هؤلاء بإرسالها كرسائل مصورة عن الأماكن التي زاروها لأهلهم وأصدقائهم في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا. ولقد قامت هذه البطاقات بتكريس صور نمطية عن فلسطين بتصوير العرب فيها على أنهم بدو رحل، واليهود كاصحاب التجارات والمصالح فيها. والأكثر من ذلك أنه تم تصوير المستوطنات الألمانية، والتي كانت تسكنها جالية الكنيسة البروتستانتية في فلسطين على أنها مستوطنات يهودية.
لربما كان هدف عمل مؤسسة “تمويل فلسطين”، والتي ما تزال تعمل حتى اليوم، في البداية هدفاً علمياً، ولكنه تحول إلى عمل سياسي واستعماري. واذا عدنا للتعليق اللاذع الصادر عن “اللجنة القضائية للمجلس الخاص” في بريطانيا، فسنجد أنه استفزاز واضح قامت به إحدى مؤسسات الدولة الرسمية وبشكل مقصود، وفي وقت كان يتجه فيه العالم نحو التبريرات العلمية المنطقية وشيوع آراء داروين وغيره من ذوي التفكير العلماني، من أجل حث الكنيسة على دفع جزء من مالها من أجل الحصول على المعلومات المتعلقة بفلسطين والشرق بطريقة أو بأخرى. معلومات كانت هامة جداً في قراءة المزاج العربي في تلك المرحلة حول الاحتلال العثماني للمنطقة العربية، ومدى الاستياء الحاصل منه، ولا يستغرب أن يكون نتاج دراساتها من أهم الأسباب التي دفعت بريطانيا خلال بداية القرن العشرين لدعم الثورة العربية الكبرى في العام 1916، والوقوف إلى جانب الملك فيصل، ومن ثم خداعه لمصلحة تقسيم سايكس ـ بيكو، وتوزيع احتلال البلاد العربية من المحيط إلى الخليج ما بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي.
هناك حقيقة حاجة عربية ماسة إلى التطور العلمي والثقافي والأخلاقي والقومي في منطقتنا، إذا ما أردنا النهوض من كبوة طال زمنها. وإن استغلال الجهل ومحاولة التجهيل المستمرة من خلال تهجير العقول والخبرات من كل الأعمار، وعدم إعطائها الفرص للمساهمة في البناء تعتبر آفة مرضية مزمنة في بنيان مجتمعاتنا. إنها “عقر”، يتسع ويكبر ويأكل جسد هذه الأمة. وإذا ما كنا نظن أن ضعفنا العسكري كان المتسبب الوحيد الذي أوقع أمتنا في أسر يكاد يبدو أنه أبدي، فإننا مخطئون، لأن أهم أسباب ضعفنا هو تراجع مخزوننا العلمي والثقافي، في جميع المجالات العلمية والاجتماعية والثقافية، وارتباط التحليلات الدراسات العلمية الأكاديمية في جامعاتنا بما جاء في العلوم الغربية وكأنها إعادة نسخ ولصق دون أي تطوير، في حين أن الغرب حين درس علوم العرب قام بتطويرها على أسس أحدث وأفضل فنسخ وجدد. وواحد من أهم أسباب ضعفنا هو تسفيه الخبرات والعلوم التي وصل إليها أجدادنا وحتى أهلونا، حتى وصلنا إلى مرحلة نتحدث فيها كما الببغاء، كما شاء التوجه الغربي في إعلامه، عن دور الشباب، وكأن الأجيال السابقة هي عالة على تطورهم. فالتطور لا يقف عند جيل دون آخر بل هو عمل متكامل ومستمر، وهذ ما يجب أن نتعلمه فعلياً في أسباب قوة الغرب.