سماهر الخطيب | كاتبة وباحثة في الشؤون السياسية
يقول كارل فون كلاوسويتز: “الحرب كالحرباء” تتغير باستراتيجياتها وأدواتها لخدمة أهدافها ورؤيتها وهو ما ينطبق حرفياً على السياسة الخارجية الأميركية تجاه الدول التي لا تدور في فضائها ولا سيما الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي باتت خارجة عن “الحظيرة” الأميركية منذ نهاية عهد الشاه وانتصار الثورة الإسلامية وتمرّدها على السياسات الأميركية المصلحية والإملاءات الغربية التي تخدم مصالحها على حساب شعوب العالم.
باتت الحرب الاقتصادية أشهر أدوات الحرب الاميركية حيث تستخدم سلاح العقوبات الاقتصادية وصولاً لحد التجويع وملاصقة هذا السلاح بالحرب الإعلامية لمحاولة إثارة الرأي العام ضدّ الحكومات المعارضة للسياسات الأميركية في أحد فصول الحرب الناعمة أو الحرب الذكية التي تستهدف كسب القلوب وإغراء العقول.
الإرهاب الاقتصادي
وقد سجُّل للولايات المتحدة الأميركيّة باع طويل من التفوّق في اتباع سياسة التجويع عبر اعتمادها على مبدأ الحصار الاقتصادي وتزوير الحقائق وصولاً إلى ضغط الشعوب وإثارتها ضدّ حكامها وأنظمتها، وليس من مثال أدلّ على تلك السياسة أفضل من حقبة الحرب الباردة وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1989؛ فلم تكن المواجهة إيديولوجية فحسب بل كانت في باطنها مواجهة اقتصادية ومالية حينما كانت الدول الاشتراكية تعاني من الأزمات الاقتصادية والمعيشية، في المقابل يجدون نظيرتهم الرأسمالية تنعم بالرخاء والازدهار.
وهذا ما كان عليه لبّ السياسة الأميركيّة، فمن جهة اتبعت مبدأ مارشال وهو المشروع الاقتصاديّ لإعادة إعمار أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومن جهة الضغط على الدول الاشتراكية فيما بعد أو التي اختارت الرُكب الاشتراكي، عبر تطبيقها لسياسة الاحتواء وتقديم الدعم المالي والاقتصادي لكلّ مَن يخرج عن هذا الركب حتى وصل الأمر إلى انهيار جدار برلين وتوحيد الألمانيتين.
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم يتضح جلياً أن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة تأتي ضمن نسق بديل عن الحرب، وبديل عن الخيار العسكري، كأحد أساليب القوة الناعمة وهي غالباً مجدية وذات آثار مدمّرة تفوق في تأثيراتها الحرب العسكرية التقليدية.
الحروب اللامتماثلة
ناهيك عنما سمي بحروب الجيل الرابع وهي بدعةٌ أميركيّة محضة، وتسمّى بـ”الحرب اللامتماثلة”، إذ تُستخدم فيها وسائل الإعلام الجديد والتقليدي، وكذلك منظمات المجتمع المدني والمعارضة، ويستخدم فيه أيضاً النفوذ الأميركيّ في أيّ بلد عبر العمليّات الاستخباريّة، والشركات الأمنيّة الخاصة، وذلك لخدمة المصالح الأميركيّة، وتنفيذاً لسياساتها الاستراتيجية.
وكان البروفسور الأميركيّ “ماكس مايوراينغ” أول من تحدّث عن هذه الحرب في محاضرة علنية في معهد دراسات الأمن القومي في “إسرائيل” بتاريخ 13 آب 2012، واختصر تعريفها بالنقاط الآتية: “هي الحرب بالإكراه، وإفشال الدولة، وزعزعة استقرارها، ثم فرض واقع جديد يراعي مصالح الدولة الأميركيّة”، معتمداً على شخصية هاري بوتر الشهيرة وما أوردته أحداث القصة من بروز شخصية شريرة هو “لورد فولدامورت” هو الخصم الشرير الرهيب الذي لا يجرؤ أحد على النطق باسمه وهو ما أراد تطبيقه في هذا الجيل من الحروب عبر ابتكار أشخاص أشرار داخل نطاق الدولة يمكن الاعتماد عليهم لتمرير سياستهم وتنفيذ مخططاتهم، وربما كانت فكرة “داعش” الإرهابية إحدى تلك النماذج الأميركيّة.. وتطرق مايوراينغ في محاضرته إلى “هيوغو شافيز” الذي تحدّث عن حروب الجيل الرابع منذ سنوات عدة حين أمر ضباط الجيش في فنزويلا أن “يتعلموا الجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة، وأن يطوروا عقيدة للتعامل معها”.
وأكد البروفيسور الأميركيّ حينها انخراطهم في هذا النوع من الحروب، ومما قاله في تلك المحاضرة، بأنّه بـ”الاعتماد على طابور خامس سيستيقظ عدوّك ميّتاً” وتابع قائلاً: “لم نعد نرسل قوات نظامية عبر الحدود، على الأقل أغلب الأحوال… والقوات العسكرية ليست نظامية، ليست كلها رجال، فيها نساء، وليسوا كلهم بالغين، بل فيهم حتى أطفال.. الهدف هو الإنهاك والتآكل ببطء.. والهدف هو التحكم أو الوصول إلى نقطة التأثير في عدوك.. نستخدم إقليماً غير محكوم بشكل كافٍ ونؤثر على أفراده للتمرّد على دولتهم..”.
احتجاجات إيران
وهو ما يفسّر لذوي العقل المنفتح البعيد عن التشدد أحداث إيران الأخيرة، وكيف استخدمت الإستخبارات الأميركية مزيجاً من ملفات متشابكة مع بعضها البعض لإثارة الداخل الإيراني ضدّ حكومته فمزجت بين قضية الحجاب والمواطنين الأكراد الإيرانيين وأولئك المتمردين على الدولة بما يسمى “منظمة خلق” لإثارة الشارع الإيراني، مستخدمة مشاهير إيران ممن أغرتهم الولايات المتحدة بسياستها “الناعمة” بعد أن فشلت المحاولات الأميركية السابقة لـ”ترويض” إيران ووضعها ضمن فلكها، ناهيك عن عدم قدرة الولايات المتحدة على استجرار تنازل إيراني بما يتعلق بالقضية النووية أو ما يتعلق بدعم إيران لمحور الممانعة وفصائل المقاومة في فلسطين ولبنان، وموقف إيران الداعم للدولة السورية في حربها ضدّ الإرهاب..
كل تلك الأساليب الأميركية التي ترجمتها في الشارع الإيراني يمكن تأطيرها بما يسمى بالحرب الهجينة او التركيبية، وهي جيل خامس من الحروب وإمتداد للحرب “غير المتماثلة”، حيث يعتمد هذا النوع المتطوّر من الحروب في استراتيجيته، على خلق تناقضات بين السلطة والمجتمع في نطاق الدولة الواحدة، عبر استغلال الوسائل كافة، يستخدم فيها العنف غير المسلح، وتعتمد على جماعات عقائديّة مسلحة، وعصابات تهريب منظمة، وتنظيمات صغيرة مدرّبة من أجل صنع حروب داخلية تتنوّع حسب الغاية منها بين اقتصادية وسياسية واجتماعية بهدف استنزاف مؤسسات الدولة المستهدفة ووضعها في مواجهة صراعات داخلية، بالتوازي مع التهديدات الخارجية العنيفة. ويقول أحد المحللين إنّ “الجيل الخامس يعتمد في استراتيجيته على احتلال العقول لا الأرض، وبعد احتلال العقول يتكفّل المحتل بالباقي”، وهو حرفياً ما تحاول تنفيذه الولايات المتحدة باحتلالها الإرادة والفكر قبل الأرض.. واستحداث حالة من الفوضى في مواقع الصراع بين أطراف محلية، وتقسيم الشعب الواحد إلى شعوب عبر إثارة النعرات واجتزاء الانتماءات وتفكيك الهوية الواحدة وتحريكها وفق الأهداف السياسية والمصلحية المرجوّة للدولة الأخرى الراعية لهذه الجماعات ضدّ دولتهم الواحدة..
ويرى محللون عسكريون بأنّ “الحرب الهجينة تستخدم التقنيات الحديثة بهدف إيجاد حكومة ظل، وهي تتعامل مع كيانات صغيرة متعددة، وممنهجة تعمل على هدم التعليم في الجامعات، وإشاعة الفوضى، وارتكاب أفعال إجرامية للتشكيك في قدرة الدولة على السيطرة الأمنية، وتُسـتغل هذه التشكيلات الإجرامية في فبركة الأخبار وتبديل الحقائق وترويع المواطنين”.
وما يحدث في البلدان العربية من مشرقها حتى مغربها وانتقال العدوى إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترجمة فعلية لهذا النوع من الحروب..
وهكذا وانطلاقاً من مبدأ “التجربة والخطأ” الذي يستخدمه الأميركيون في سياستهم الخارجية وهو أسلوب يتميز بتكرار التجربة والتنويع المستمر في الأساليب حتى النجاح، فإن تمّت تجربة ما وفشلت في تحقيق الأهداف المرجوّة منها، تم الانتقال إلى غيرها من الوسائل التي تحقق الغاية المرجوّة والمصالح الأميركية.
إنطلاقاً من هذا المبدأ يجد فريق السياسة الخارجية الأميركية الحالية في سيناريو الاحتجاجات في إيران سيناريو لتحقيق الأهداف المرجوة من “الحرب التركيبية” التي تخوضها الولايات المتحدة فيما يسمى بـ”الحرب التي تُدار عن بُعد” عبر استخدام أسلحة ذكية تدخل في صلبها شبكات الإنترنت عبر التجنيد الكامل للمجتمع المستهدف، كما تمارس حملة “أقصى ضغط” على الخصم لإجباره على الجلوس إلى الطاولة والتفاوض على اتفاق أشمل.
ويُعتبر الرؤساء الأميركيون من أكثر المستخدمين لسياسة الحصار والعقوبات ضدّ الدول، وكلما تسلم رئيس جمهوري أو ديمقراطي مقاليد الحكم سار على خُطى أسلافه في البيت الأبيض، الذين خطّ لهم هذا النهج “وودرو ويلسون”، وهو الرئيس الـ28 للولايات المتحدة، وتولى الحكم من عام 1913 إلى 1921.
وقد اشتهر الرئيس ويلسون بقوله: إن “الأمة التي نقاطعها هي أمة على وشك الاستسلام”، وتأكيده بالقول: “طَبِق هذا العلاج الاقتصادي والسلمي الصامت والمميت، ولن تكون هناك حاجة لاستخدام القوة، إنه علاج رهيب لا يكلف حياة خارج الدولة التي تقاطعها، لكنه يفرض ضغوطاً عليها، وفي رأيي أنه لا توجد دولة حديثة يمكن أن تقاوم”.
إلاّ أنّه وفي العودة إلى الحرب الناعمة وذراعها الإعلامي فإنه وفي السنوات الأخيرة تحديداً، بدت الفجوة كبيرة بين صورة العالم التي رسمتها وسائل الإعلام الغربية الرئيسية وكذلك عدد من وسائل الإعلام العربية والصورة الواقعية فقد بات الفرق شاسعاً ولا يتفق مع أرض الواقع، ولا يتطابق معه. حتى أولئك المواطنين الأميركيين أنفسهم، الذين تعرّضوا لغسيل دماغ لعقود مضت، قد توقفوا عن تصديق الإعلام الأميركي.
ففي وسائل الإعلام الغربية وعدد من وسائل الإعلام العربية، تبدو الولايات المتحدة الأميركية بلداً ديمقراطياً و”رئيسة العالم الحر”، والاقتصاد ينمو، والبورصات في انتعاش دائم، كما تشدد تلك الوسائل الإعلامية على حرصها في إظهار مفاهيم الليبرالية الحديثة بأجمل صورها، وأن العالم كله حريص على تقنين زواج المثليين، في حين تتدخّل روسيا “الاستبدادية” في جميع الانتخابات حول العالم، وتقوم بـ”احتلال” الأراضي الأوكرانية و”إنتهاك” حقوق الإنسان وترتكب “جرائم الحرب”، وتقوم الصين “الديكتاتورية” بممارسة “العنصرية” ضدّ “المسلمين وانتهاكات حقوق الإنسان في أقاليمها”، وتقوم إيران بممارسة “عنصرية” ضدّ “الأكراد الإيرانيين” وتفرض “إلزامياً” الحجاب و”تتدخل” في الشؤون الداخلية للدول (وفق ما تسوّقه وسائل الإعلام الأميركية والغربية)!!
ووسائل الإعلام تلك نفسها تتغاضى عن قضايا أخرى إذ لا وجود للأزمة الاقتصادية والسياسية التي يواجهها الغرب، ولا يوجد قمع كامل ضد مؤيدي ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، ولا يوجد فرض لقيم المثليين، ولا توجد رقابة في وسائل الإعلام الغربية وشبكات التواصل الاجتماعي، ولا عدوان للولايات المتحدة على دول العالم خاصة الدول الشرق الأوسطية، ولا وجود لمجاعات ومعاناة سببها السياسات الأميركية والدول الغربية، ولا وجود لانهيار الدولار بسبب هرم الديون وطباعة تريليونات الدولارات غير المغطاة. إنما الواقع بالعكس تماماً عن كل ما تحاول تلك السياسات الإعلامية الغربية وبعض العربية من فرضه سواء في روسيا أو إيران أو سورية وغيرها من البلدان الغربية والعربية.