روزانا رمال | كاتبة واعلامية لبنانية
«الدبلوماسية هي السبيل الوحيد للعودة إلى التنفيذ الكامل للاتفاق النووي والتغلب على الخلافات الحالية»… بهذه الكلمات أعلن مسؤول السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن استئناف المحادثات حول البرنامج النووي الإيراني خلال الأيام المقبلة بعدما كانت مجمل الأطراف أقرب الى إحياء التفاهم أكثر من أيّ وقت مضى في شهر آذار الماضي، بعدما استمرّت المحادثات لأكثر من 11 شهراً بين الدبلوماسيين الإيرانيين والغربيين والمسؤول المباشر المعيّن من قبل إدارة بايدن لتنسيق الملف روبرت مالي الذي استشرف به المعنيون خيراً لحظة تعيينه لمعرفته عن كثب بالملف، إلا أنّ مالي نفسه أرخى أجواء سلبية في الأسابيع الماضية أكدت على وجود مأزق جدي في هذا الإطار أرجعَ المحادثات الى نقطة صعبة.
العناصر التي تتحكم بدرب الجلجلة والتفاوض المضني كافية لعرقلة خيار الإدارة الديمقراطية الحالية في إعادة إحياء الملف، وهي الاستراتيجية نفسها التي اتبعها سلف بايدن الديمقراطي باراك أوباما في التوصل الى تفاهم يجده أوباما أساسيا لكبح «جماح» إيران ومنعها من امتلاك قنبلة نووية حسب أعضاء الكونغرس في الحزب الديمقراطي الذين يواجهون منذ اتفاق عام 2015 نفس مستوى السجال مع نظرائهم الجمهوريين الذين ما برحوا يستغلون فشل إدارة بايدن حتى اللحظة في تحقيق إنجازات على مستوى الاقتصاد المترنح والمخاطر المحدقة بالولايات المتحدة، والتي تعمّ أرجاء المجتمع الأميركي، والتي بدأت بأزمة محروقات وصارت اليوم تدقّ ناقوس الخطر على مستوى «الأمن الغذائي»، إضافة الى التضخم الذي بلغ أعلى مستوياته منذ العام 1980 حتى بات جزء كبير من الأميركيين يصف إدارة بايدن بأنها الأسوأ.
السيناتور الجمهوري السابق عن كولورادو تيد هارفي يقول في «واشنطن تايمز»، إنّ الرئيس جو بايدن «أسوأ رئيس للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين»، وأضاف: «هناك فرصة للجمهوريين هذا العام لهزيمة الرئيس الديمقراطي بايدن، ولهذا يحتاجون فقط إلى تذكيرهم بسلسلة إخفاقاته منذ بداية ولايته». لماذا؟ لأنّ السيد بايدن هو أسوأ رئيس أميركي منذ عقود…
بالمقارنة معه يبدو رئيسه السابق باراك أوباما ناجحاً… مستشهداً بكلام للرئيس الأسبق جيمي كارتر قال فيه «لم تَقُد الولايات المتحدة إدارة غير كفوءة بشكل عجيب وغير فعالة على الإطلاق ومثيرة للشفقة كهذه».
كلّ هذه الصورة في الداخل يُضاف اليها أسباب استراتيجية أبعد مدى عرقلت مسار تقدّم العملية التفاوضية التي صارت أبعد على مشارف بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وبعد مرور أشهر عليها، تسنّى للرئيس بايدن وفريقه مراقبة إمكانية التخلي عن هذا التفاهم من عدمه، في وقت وصلت رسائل الامتعاض «الإسرائيلي» الى أروقة البيت الأبيض غير مرة، فقد حاولت تل أبيب فرملة ايّ إمكانية للعودة الى السياق التفاوضي رافعة سقف التصعيد الأمني في حوادث متفرّقة يبقى أبرزها اغتيال علماء نوويين إيرانيين خلال الأشهر الماضية في إيران، واستهداف مراكز عسكرية مهمة في سورية في ما يذكّر بنفس السياق العام الذي اتبعته تل أبيب عشية توقيع اتفاقية فيينا 2015 دون ان تكترث إدارة أوباما للتصعيد الأمني حينها ومضت نحو التوقيع.
توقف المحادثات الذي أخذ طابعاً تكتيكياً يتعلق باعتراض إيراني على عدم حذف الحرس الثوري الإيراني عن لائحة الإرهاب، توسّع لتعقيدات استراتيجية دقيقة على صعيد الحلف الواحد، فبدخول روسيا الحرب على أوكرانيا يصبح ايّ تفاهم حتمي مع إيران هو «نافذة» لمدّ الغرب بالنفط والغاز المطلوب في هذه الأزمة، فيما سيُعتبر ذلك خذلانأً إيرانياً لروسيا وعدم الوقوف عند مصالح موسكو، وفي حين اعتبر مسوولون إيرانيون ان لا علاقة لموسكو بتوقف المحادثات فإنّ كلّ المؤشرات تؤكد ذلك خصوصاً بعدما لجأت واشنطن الى طلب النفط من كاراكاس التي سطرت عقوبات شديدة عليها لزمن، معتبرة انّ ايجاد بدائل لمصادر الطاقة الروسية هو الهدف الأهمّ حالياً.
وفيما بدت طهران أبعد من الضغط باتجاه إعادة إحياء الاتفاق بدت الجهات الأوروبية أكثر حماساً لذلك، وما تحرك جوزيب بوريل سوى ترجمة للتنسيق الأوروبي في هذا الإطار الامر الذي يُقرأ في أكثر من اتجاه:
أولاً: انّ الإعلان عن استئناف المحادثات الأوروبية بين الغرب وطهران قبل زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة هو «رسم مسبق» لخريطة الزيارة وأولوياتها، الأمر الذي ستتلقفه «إسرائيل» بشكل سلبي للغاية بعد ان كانت الأجواء توحي عكس ذلك.
ثانياً: يأتي الرئيس الأميركي الى المنطقة بخيار «تفاوضي» لا تصعيدي يرخيه على الدول الجارة لإيران وتحديداً السعودية التي يتوجّه إليها بايدن للبحث في ملفات عدة يتوقع ان يحتلّ رفع الرياض لإنتاج النفط الحيّز الأكبر منها، وكله يدور في نفس فلك تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا.
ثالثاً: عودة الأجواء التفاوضية قادرة على إرخاء ستاتيكو سياسي أمني في الدول التي تعاني بشكل أساسي من فوضى في إدارة العملية السياسية وتحديداً العراق ولبنان والتي ستتجه بشكل أقرب الى الخيارات التسووية.
رابعاً: انّ الحرب الروسية الأوكرانية تخفض من سقوف التفاوض خصوصاً أنّ حاجة الغرب للغاز والنفط كبيرة الأمر الذي تدركه «إسرائيل» وتعترض عليه معتبرة حسب القناة الثانية عشرة «الإسرائيلية» نقلاً عن مسؤول أمني رفيع «أنّ العودة للاتفاق النووي مع إيران ستسفر عنها تداعيات سيئة للغاية على إسرائيل، وستسمح لإيران بازدهار اقتصادي يعزز قدراتها العسكرية في الشرق الأوسط».
خامساً: انّ إعادة التوازن الى الروبل الروسي وسيطرة موسكو على المشهد العسكري يجعل المشهد مختلفاً عن بداية الحرب والمجهول الذي كان من الممكن ان يشكل ضغطاً أكبر على طهران للقبول، ما يعطي هامشاً تفاوضياً أوسع لإيران يمكنها من التوصل الى تفاهم حقيقي هذه المرة بدون الشعور بالخذلان.
سادساً: يحتاج الديمقراطيون الى محاولة أخيرة وسط ضغط الحاجة للطاقة يمكن ان تسجل في سجل إنجازات بايدن وهي كذلك كرة نار يرميها بوجه الجمهوريين إذا ما تسلموا السلطة بعد نهاية ولايته.
اما اللافت اليوم هو ترشيح الإيرانيين لقطر لتستقبل المباحثات على أراضيها الأمر الذي يضاعف الرسائل في المنطقة مع تحرك أساسي لأمير قطر باتجاه مصر بعد سنوات من القطيعة، ما قد يرشحها لأدوار تفاوضية أخرى قد لا يكون لبنان بعيداً عنها.
سفن التفاهم النووي تتقدّم باتجاه المرسى…