كتبت رنا الساحلي | عزف على “أوتار الحياة”.. لأجل “ما تبقى” من الوطن!
رنا الساحلي | كاتبة واعلامية
إبسطي شراع يديك للمطر القادم. لقد سئمنا جفاف أوطاننا.
احملي بين أناملك قيثارة الحنين، واعزفي على أوتار صوتك المخنوق بالكلمات.. إمسحي غبار الأحزان، ولا تترددي.. رغم ما حولنا لا بد أن نمسح كل يوم ذاك الركام وكأنه ضباب سيمر بنا ذات يوم…
افتحي تلك الأبواب الموصدة وإن هجرها الأحباء، لأننا ببساطة، يا سوسن، لا نستطيع إلا أن نعيش على الذكرى. سنشتم روائح الذين عبروا.. نبحث عن بقايا هناك من أثرهم…
نعم عاكستنا الحياة.. قهرتنا.. سرقتنا، وسرقت أجمل ابتسامات البراءة التي كانت في أعيننا.. جبناء نحن أمامها! لكن كيف نستسلم لها؟!
لا أدري من السبب، ولماذا. هل هي الحياة قاسية هكذا أم هو طبع البشر؟! أم أن المناصب تجعل من الطفل البريء فرعوناً قاسياً بارد المشاعر، يتلاعب بمن هو أقل منه كيفما شاء؟! بل يمتلك كل حياته. في ثانية واحدة يستطيع أن يسلبه كل نفَسٍ يخرج ساخناً من صدره!
نعم يا “سوسن”. تضيق بنا الحال، وأحرفك المخنوقة شعرتُ بها في صدري الذي لم يتمكّن منه فيروس “كورونا”، لكن الخوف منه وتجربته التي أصابت الكثيرين حولي، جعلتني أستشعر به.. لكن لا دواء لذاك الاختناق…
وطني يؤلمني يا سوسن.. نعم، لا زلنا نحاول أن نزرع الحب في بساتين العمر التي نمرّ بها، لكن الجفاف كتلك الصحراء التي بتنا نتنفس هواها الجاف المعدوم الأحاسيس. أوجاع في كل ما نراه أمامنا، لكن من دون أنين أو صراخ. هو الموت الصامت الذي يحتلُّ كل ما فينا ليتنهد آخر أحرفه، فلا شيء كما كان.. أحلامنا المسروقة باتت طيفاً لا يمكن أن يعود. كل شيء سلبوه، حتى تلك الأحلام الصغيرة الطفولية، باتت تضايقنا في زواريب حياتنا. كل الطرقات مسدودة، ولكن لا يجب أن نستسلم يا صديقتي. هم يريدون منّا أن ننتحر انتحاراً جماعياً…
هل سمعت عن ذاك الأب الذي قتل نفسه وصوته يختنق قبل أنفاسه؟ وذاك الابن الذي ودّع الحياة بـ”يا مريم ارحميني”؟! أسماء عديدة باتت أرقاماً في وطننا. لم يعودوا يريدون الاستمرار في الحياة. يئسوا قبل قطار العمر الذي لم يمر. هربوا يا صديقتي من الحياة وما فيها، وهي عكس ما يريده الله… يريدنا أن نحيا.. أن نستشعر بلذة اللهو واللعب والجد والعمل، وهم يريدون لنا أن نيأس.. أن نقف مكتوفي الأيدي، ونستمع لصوت تحطيم عظامنا…
أنتركهم يتقاذفون بنا من أعلى المنحدر ليدوسوا علينا وكأننا أوراق خريف بالية؟!
سمعت، مؤخراً، تعبيراً استوقفني “بعض الخناجر بلغت القلب”. عبارة لامست عقلي وأحاسيسي، وكم هي الخناجر في كل الوطن.
لم يعد هناك شيء صالح للحياة. نعم، لكن يجب أن نعيد ترميم أحرف الحياة، وإن شوهتنا.
ألسنا أبناء هذه الأرض؟ ألم نولد من رحم المعاناة؟
ألسنا أولئك الذين أكلوا من ترابها؟!
أليست هي من قاومت المحتل على مدى الأزمان؟
أنتركها ونترك كل عطورنا فيها ونرحل؟ ستختفي ذاكرتنا عندها!
أنترك تلك الأجساد التي بقيت هناك وكأنها لم تكن! هي بذور الحرية، هي قنديل الكرامة. زرعت في كل تراب الوطن لتحميه وكأنها مهره القاني.
لا يا صديقتي.. عنيدة أنا، رغم أن كل شيء في هذه الحياة صفعني، بل وداس عليّ كأنني خرقة بالية.. لكنني لن أتركها. سنبدأ من الصفر. نعتبر كل ما مررنا به زلزالاً دمرنا لنعود من جديد، وكأننا وُلدنا اليوم. سنكوي جراحنا ونولد مع الصرخة الأولى، ونجعل آلام الأمهات يقيناً للمخاض.. ونبقى هنا…