الدكتورة هدى رزق | باحثة في الشأن التركي والإقليمي
تتحرك الولايات المتحدة الأميركية في جنوبي القوقاز وترى أن الحرب الروسية الأوكرانية جعلتها تعيد النظر في تخليها عن تنظيم المنطقة لروسيا، فالواقع الجيوسياسي حمل بايدن وإدارته على تنشيط العمل الدبلوماسي في تلك المنطقة، وترى أن من مصلحتها دعم التطبيع بين أرمينيا وأذربيجان.
نظراً إلى أهمية مصالحها الاستراتيجية في موارد الطاقة في بحر قزوين وإمكانات جنوبي القوقاز كعقدة اتصالات وطرق نقل، تحرّكت الإدارة الأميركية قبل الحرب الأوكرانية الروسية، ودعمت لقاءً تركياً أرمينياً، بنتيجته حصلت لقاءات دبلوماسية، كان آخرها بين وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في منتدى أنطاليا للدبلوماسية الثاني في 11 آذار/مارس 2022.
وفي رسالة وجهها الرئيس الأميركي بايدن إلى المشاركين في أسبوع الطاقة أكد أهمية أذربيجان في استقرار أمن الطاقة الأوروبي، وزاد الاهتمام بتطورات العلاقة بين باكو ويريفان، تبحث أميركا عن حل سريع للنزاع بين البلدين، ما قد يسهل أي اتفاقية سلام ويبعد الخطر عن أنابيب النفط والغاز الاستراتيجية في المنطقة ويحفظ أمن الطاقة وإمكاناتها التجارية، فالوصول إلى الطاقة في آسيا الوسطى يمر عبر أذربيجان وجورجيا.
كان من المرتقب بعد عقد اتفاق بين روسيا وأرمينيا وأذربيجان عام 2020 أن يُفتح ممر زنغازور بحيث تقدم أرمينيا عبر الممر إمكانية توفير الربط بين أوروبا وآسيا، وكان إلهام علييف الرئيس الأذربيجاني، قد أعرب في رسالة موجهة إلى بايدن عن إدراك أذربيجان لأهمية أداء الولايات المتحدة دوراً في تطبيع العلاقات مع أرمينيا.
رأت باكو أن تجري الوساطة الأميركية بعيداً من إحياء الرئاسة المشتركة المنبثقة من اتفاق مجموعة مينسك التي تضم فرنسا وروسيا، لكن أرمينيا، على العكس، أظهرت تمسكاً بالمجموعة.
تعثر الجهود الإقليمية
بعد انتهاء حرب كاراباخ وبعد توقيع الاتفاق 2020 تجدّدت الآمال في التعاون الإقليمي في القوقاز، وجرى اقتراح “منصة التعاون الإقليمي السداسية في أنقرة”، التي شملت تركيا وروسيا وجمهورية أذربيجان وإيران وجورجيا وأرمينيا، واعتُمد النموذج المقترح من طهران “3 + 3” الذي يشمل دول جنوبي القوقاز الثلاث وهي: أرمينيا وجورجيا وجمهورية أذربيجان إضافة إلى روسيا وتركيا وإيران، عقدت القمة الأولى في إطار مجموعة 3 + 3 في موسكو في 11 كانون الأول/ديسمبر 2021، مع أن جورجيا لم تحضر بسبب خلافاتها مع روسيا حول أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، أبدى الحاضرون رغبتهم في حضورها الاجتماعات المقبلة.
بذل المشاركون في القمة عدداً من الجهود لحل النزاعات الحدودية بين أذربيجان وأرمينيا، بما في ذلك عقد اجتماعات بين البلدين في سوتشي.
اتخذت تركيا وأرمينيا خطوات مهمة نحو تطبيع العلاقات، لكن التحديات كبيرة أمام التكامل الإقليمي. إذ يرى الخبراء الأرمينيون أن “أذربيجان تستخدم اليوم فرصة انهماك روسيا في حرب أوكرانيا وتواصل اعتداءاتها، في محاولات لكسب أكبر قدر ممكن من الأراضي والنفوذ، وهي انتهزت فرصة الحرب الروسية لتقديم اقتراح من 5 نقاط لتحقيق سلام شامل. تتضمن هذه الخطة الاعتراف المتبادل بسيادة كل دولة وسلامتها الإقليمية، والتخلي المتبادل عن أي مطالبات إقليمية مستقبلية، وترسيم الحدود، وإقامة علاقات دبلوماسية، وفتح روابط نقل إقليمية. ولم تأبه لاقتراحات أرمينيا.
أسباب التوتر: المصالح الإقليمية والدولية
يعود التوتر بين البلدين إلى صعوبة تحديد الحدود بينهما، إضافة إلى معارضة أرمينيا إنشاء “ممر زنغازور” الذي سيربط البر الرئيس لجمهورية أذربيجان بناختشيفان، وهي منطقة تريد أذربيجان إقامة ممر عبرها إلى ناختشيقان، وإنشاء طريق نقل يعبر تلك المنطقة، وهو ما ترفضه أرمينيا رفضاً قاطعاً فهي لن تسمح لأذربيجان بأن يكون لها “ممر” عبر الأراضي الأرمينية.
وصرَّح نيكول باشينيان، رئيس مجلس وزراء أرمينيا، في مؤتمر عُقد في روسيا في 8 أيلول/ سبتمبر 2022 أن “أرمينيا لن تمنح أحداً ممراً عبر أراضيها” من دون شروط.
يثير ممر زنغازور قلق إيران أيضاً، وهي التي تخشى انقطاع حدودها مع أرمينيا وأن تطوقها تركيا وأذربيجان، خصوصاً أن الأخيرة تقيم علاقات وطيدة بـ”إسرائيل”، وإيران لا تثق إلا بتحكيم روسيا، وترى أن محاولة إضعاف روسيا، وهي تخوض حربها على أوكرانيا، محاولة غربية لزعزعة استقرار جنوبي القوقاز.
أما أرمينيا فهي لا ترفض إمكانية إنشاء “ممر زَنغازور”، وهو أرض أرمينية، إذا كانت لها سيطرة عليه، وذلك خشية أن تفقد حدودها الجنوبية، التي تُعَدُّ المنفذ الوحيد لها إلى إيران، وهي حليفها، ولا تستطيع التخلي عن خطوط النقل التي تربطها بإيران، وإلا فإنها قد تفقد حدودها معها، ما يُمثِّل ضربة لسيادة أرمينيا.
وبخصوص جورجيا وأذربيجان فهما خصمان لها، وتركيا شريك عسكري لأذربيجان عبر ممارساتها العسكرية في حرب كاراباخ، إذ طرحت نفسها قوة موازنة للنفوذ الروسي، وحاولت أن تحل محل روسيا كمزود رئيس للأسلحة لأذربيجان. أما دوافعها الأساسية فهي استعادة التجارة الإقليمية وتوسيع نفوذها الإقليمي.
ترى يريفان أن تركيا كانت على دراية بالموافقة الدولية التي ستجلبها العملية العسكرية في كاراباخ، لا سيما موافقة الغرب، وذلك للعمل على تصدير النفط عن طريق خط باكو-تبليسي-جيهان الذي سينقله إلى بحر قزوين من أذربيجان عبر ميناء جيهان التركي ومنه إلى الأسواق العالمية في الغرب.. فضلاً عن طموحها إلى التمدّد في الجمهوريات الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى.
أدت التناقضات إلى فشل الجهود المبذولة لإحياء السكك الحديد التي تعود إلى الحقبة السوفياتية في جنوبي القوقاز، ومعارضة أرمينية داخلية واسعة النطاق لمشاركة حكومة نيكول باشينيان في محادثات السلام بين أرمينيا وجمهورية أذربيجان، وتطبيع العلاقات بين أرمينيا وتركيا.
اتهمت الدوائر الغربية روسيا بأنها تستغل ديناميكيات حرب ما بعد ناغورنو كاراباخ القائمة على توتر العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان لإبقاء قواتها العسكرية. تتدخل الولايات المتحدة بقوة على خط أرمينيا عبر اللوبي الأرميني الأميركي وبعض القوى القومية لكي تستميل أرمينيا وتقنعها بالتخلي عن العلاقة بإيران وروسيا التي باتت ضعيفة، واتباع المشروع الأذربيجاني لما فيه مصلحة الغرب في صراعه مع روسيا عبر دعم أوكرانيا.
تمتلك موسكو وتدير شبكة السكك الحديد الأرمينية، وهي تدير محطة الطاقة النووية في أرمينيا.
لا يمكن أن ينجح أي مشروع إقليمي في القوقاز من دون تعاون موسكو ومشاركتها، وهي أدت تاريخياً دوراً مهماً في إدارة مشاريع التعاون الإقليمي، وتواصل جهودها لإثبات أن حرب أوكرانيا ليس لها تأثير على وضعها في القوقاز، ولهذه الغاية، يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقاء رئيسي أرمينيا وأذربيجان، الأسبوع المقبل.
اقترحت روسيا على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إنشاء شكل جديد في القوقاز يضم 3 دول قوقازية هي: أرمينيا وأذربيجان وجورجيا إضافة إلى الدول الثلاث المجاورة وهي: وروسيا وتركيا وإيران، وتتناول الصيغة قضايا الأمن وفتح العلاقات الاقتصادية والنقل، وأصر لافروف على أهمية توقيع إيران على اتفاقية الوضع القانوني لبحر قزوين، التي ستضمن عدم تدخل الدول الأجنبية في الشؤون الإقليمية، وهي تحظر على نحو مباشر وجود قوات عسكرية لأي دول غير مطلة على بحر قزوين.