كتبت د . هدى رزق | التغيرات الجيواستراتيجية في وجه التحالف التركي الإسرائيلي
الدكتورة هدى رزق | باحثة في الشأن التركي والإقليمي
تعود العلاقة بين “إسرائيل” وتركيا إلى عام 1949، بحيث شكّل الطرفان تحالفاً لخدمة أهداف الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة في منطقة الشرق الأوسط. وتعمّقت العلاقة في ظل إمساك جنرالات الجيش بقرار السلطة في تركيا خلال تسعينيات القرن الماضي، وعقدها اتفاقيات في مجالات الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا والسياحة والزراعة حتى عام 2010، بحيث استمرت العلاقات مع وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة، إلا أن العلاقة الثنائية بدأت بالتراجع بعد حادثة سفينة الحرية، حين قُتل تسعة ناشطين أتراك خلال دعم غزة بعد حصارها.
ومع أول زيارة لرئيس للاحتلال الإسرائيلي لتركيا منذ عام 2007، يرى عدد من المحللين أن الطرفين يشتركان في مصلحة استغلال الغاز الطبيعي في شرقي البحر المتوسط، واجتمعا مؤخَّراً لتقديم الدعم إلى أذربيجان، لوجستياً وتقنياً وتشغيلياً، خلال حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020. لم يتأثّر التعاون الاقتصادي بتراجع العلاقات الثنائية، فارتفعت مستويات التجارة، على الرغم من الخلافات، من 3.8 مليارات دولار في عام 2008 إلى 6.5 مليارات دولار في عام 2020. يقطن في تركيا نحو 15000 يهودي، وهم يعدّونها وطنهم. التقى في كانون الأول/ ديسمبر الماضي الرئيس التركي إردوغان بمجموعة من رجال الدين اليهود السفارديم في تركيا وقادة يهود من الإقليم، وتعهَّد مكافحة معاداة السامية، وأكد أهمية العلاقة بـ”إسرائيل” ورمزيتها.
فوائد التقارب وعوائقه
من المقرَّر إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا في الـ18 من حزيران/يونيو 2023، ولم يحسم عدد كبير من مؤيدي إردوغان، حتى الآن، رأيه في التصويت له لولاية أخرى في السلطة. كثير من هؤلاء المؤيدين ينتظر خطته لانتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية، بينما يعدّ إردوغان أن التقارب مع “إسرائيل” يوفّر فوائد جمة لتركيا، قد تعطيه القدرة على تحسين موقفه تجاه واشنطن، كما سيوفر له القدرة على تحفيز البنوك والمستثمرين الأجانب، الذين يعدّون أن فشله الاقتصادي أدّى إلى تدمير الاقتصاد التركي. في المقابل، قد يكون إردوغان على استعداد لخفض مستوى علاقته بـ”حماس” وإغلاق مكاتبها، وهي نقطة الخلاف الحاسمة مع “تل أبيب”.
خطوة إعادة العلاقات الطبيعية بـ”إسرائيل” يمكن أن تقلّص شعبيته المتدنية، والتي ستنتقل إلى التصويت لحزب السعادة الإسلامي المعارض. لكن الأغلبية العظمى من قاعدة إردوغان معنية أكثر بالأزمة الاقتصادية المتفاقمة في تركيا.
قرارات السياسة الخارجية أصبحت أسيرة لاعتبارات السياسة المحلية في كل من تركيا و”إسرائيل”، فهل ستكون “إسرائيل” مستعدة لتمكين إردوغان في أضعف حالاته؟
يرى بعض المحللين الإسرائيليين أن من مصلحة “إسرائيل” أن تعلّق التطبيع الكامل موقتاً مع تركيا إلى ما بعد الانتخابات فيها، فإردوغان هو السبب في تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية. في الوقت عينه، لا يستطيع رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، نفتالي بينيت، ووزير خارجيته، يائير لابيد، واللذان يتمتعان بأغلبية ضئيلة، نتيجة الاعتبارات السياسية المحلية، وهما من المتطرفين ضد إردوغان ومن المدافعين عن علاقات أعمق باليونان وقبرص، أن يتراجعا عن توجّههما إلاّ إذا كانا سيقدّمان التقارب مع تركيا باعتباره ضرورة استراتيجية في سياق الصراع مع إيران.
لم تعد تركيا كما كانت قبل عقد من الزمن، فهي خضعت لتغيّر مؤسسي كبير. فتركيا، مع إردوغان، خضعت للتحولات التي عملت على منع التعاون الكامل الذي اعتادته تركيا في علاقتها بـ”إسرائيل” خلال تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأصبحت كل من وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية في أيدي جماعة “العدالة والتنمية”، بحيث تحوّل السفراء الذين كانت تعرفهم “تل أبيب” إلى مشاريع تقاعد، وأيضاً الضبّاط المقربون من الناتو ومن “الموساد”. كما أن الاستخبارات التركية، مع هاكان فيدان، لم تعد كما كانت في تنسيقها مع “إسرائيل”، بينما تغيرت نظرة المسؤولين الإسرائيليين إلى تركيا، وتحولت إلى عداء. ففي عام 2020، اتخذت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية خطوة غير مسبوقة بتصنيف تركيا – إردوغان جزءاً من التحديات.
تأثير التحوّلات الجيوسياسية في العلاقة بين أنقرة و”تل أبيب”
خلال التحولات التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط، ركّزت “تل أبيب” على إيجاد مجموعة متنوعة من الشركاء الدوليين من أجل أن تحلّ محل العلاقات التركية الإسرائيلية، بحيث حلت التدريبات الجوية مع اليونان ورومانيا مكان التدريبات المشتركة الإسرائيلية التركية. ووجدت “إسرائيل” أيضاً في الهند بديلاً ملائماً من أجل شراء التكنولوجيا، وهي تشتري ضعف عدد الأسلحة التي اشترتها أنقرة. كما أثبتت أذربيجان، بصورة متزايدة، أنها زبون متحمس لشراء الأسلحة الإسرائيلية، بحيث بات مصدر 69% من أسلحتها إسرائيلياً، كما أبدى عدد من الدول في الشرق الأوسط اهتماماً بالتكنولوجيا الإسرائيلية.
عمّقت اليونان وقبرص و”إسرائيل” علاقاتها فيما بينها، انطلاقاً من المصالح المشتركة في غاز المتوسط، وبناء خط أنابيب تحت الماء من شأنه نقل الغاز الطبيعي من مصر و”إسرائيل” إلى أوروبا، ولدى كل من القاهرة و”تل أبيب” تاريخ من الصراع مع أنقرة. عرضت تركيا على “إسرائيل” شروطاً أفضل فيما يتعلق بحقوق الحفر، لكنّ “إسرائيل” تفضّل الصدقية التي وجدتها لدى محاوريها اليونانيين والقبارصة، على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين ابلغوا إلى هذه البلدان، بصورة غير رسمية، عدم جدوى هذا المشروع.
العلاقة بين “إسرائيل” واليونان وقبرص تعمّقت وتجاوزت التعاون بشأن خط الأنابيب، بحيث توصلت الأطراف الثلاثة إلى عقد اتفاقيات بشأن عقود الدفاع والموصلات الكهربائية. وشهدت المنطقة، مع تطورات الربيع العربي، تغييرات مهمة في العلاقة بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية، الأمر الذي خفّف وهج التقارب الكامل مع تركيا على الرغم من أن إردوغان غيّر موقفه، وقام بمبادرات تجاه الدول العربية التي كان يعاديها، وتغيرت حسابات “تل أبيب” تجاه أنقرة بعد “اتفاقات أبراهام” وبعد تطبيع العلاقات بالإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان. ولم تعد “إسرائيل” تعتمد على وجودها الدبلوماسي في تركيا كرأس جسر في العالم الإسلامي، كما لم تعد في حاجة إلى وساطة تركيا بينها وبين الفلسطينين، مع تجميد عملية السلام.
زيارة هرتسوغ لتركيا هي بمثابة اختراق في العلاقات الثنائية التركية الإسرائيلية. ومع ذلك، مهما تكن المكاسب الدبلوماسية التي سيتم تحقيقها، فمن المحتمل أن تكون نتيجة لعبة جيوسياسية أكبر. إصلاح العلاقات السطحية بـ”إسرائيل” يأتي كخطوة في عملية التقارب الإقليمي، بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، لأنقرة. وكان الرئيس التركي أوضح أنه سيتم اتخاذ خطوات مماثلة مع مصر و”إسرائيل”. إردوغان يسعى بشدة لتقليل العداء الإقليمي تجاه حكمه قبل انتخابات عام 2023. فالمصالحة مع “إسرائيل” ستعمل بصورة أساسية على تعزيز مكانة الرئيس إردوغان في العاصمة الأميركية، وليس في “تل أبيب”.
لقد تحول ميزان القوى الإقليمي لمصلحة “إسرائيل”، وليس لديها أسباب أخرى للتعامل بجدية مع تركيا. الآن، بعد أن أقامت علاقات بعدد من الدول العربية، وعزّزت علاقاتها بلاعبين متوسطيين آخرين، فإن التعاون مع تركيا لا يوفّر المزايا الفريدة التي قدّمها من قبل، على الرغم من وجود مؤشرات إيجابية على الجبهة العربية التركية، ولم يعد ممكناً استعادة التحالف القديم بين تركيا و”إسرائيل”، حتى لو تولّت المعارضة التركية السلطة، فالإصلاح المؤسسي في تركيا في حاجة إلى عقود.