كتبت د . هدى رزق | أين سيتموضع التيار الصدري في ظلّ التجاذبات الإقليمية؟
الدكتورة هدى رزق | باحثة في الشأن التركي والإقليمي
التوازن في العلاقات الداخلية، بالنسبة إلى أي دولة، يؤثّر في التوازن في علاقاتها الخارجية. وهذا هو التحدي أمام تشكيل القرار في الدولة العراقية، والذي سيؤثّر في مستقبلها وعلاقاتها بجارتيها، إيران وتركيا، في ظلّ مشروع الانفتاح على المحيط العربي، ونسج علاقات بالولايات المتحدة الأميركية في إطار اتفاقية الإطار الاستراتيجي، والتي وقّعها العراق مع الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2008، وصادق عليها مجلس النواب العراقي في نهاية العام نفسه، ودخلت حيز التنفيذ في شهر كانون الثاني/يناير من عام 2009.
تُرسي هذه الاتفاقية، واسمها الكامل هو “اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة وتعاون بين الولايات المتحدة وجمهورية العراق”، أُسسَ تعاون مشترك وطويل المدى بين البلدين، في سبعة مجالات رئيسة، هي: 1- السياسة والدبلوماسية؛ 2- الدفاع والأمن؛ 3- الثقافة؛ 4- الاقتصاد والطاقة؛ 5- الصحة والبيئة؛ 6- تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ 7- تطبيق القانون والقضاء. في كل واحد من مجالات التعاون هذه، حدَّدت الاتفاقية الأهداف العامة المرتبطة بكل قطاع، وهي، في أغلبيتها، تتّصل بتقوية المؤسسات العراقية وتطوير قدراتها على تأدية مهمّاتها بفعالية.
وللإشراف على إنجاز هذه الأهداف، نصّت الاتفاقية على تشكيل لجنة تنسيق عليا أميركية – عراقية، تلتقي دورياً، مهمتها متابعة تنفيذ بنود الاتفاقية، وتُمثَّل فيها الوزارات والمؤسسات المعنية بالمشاريع، التي تُحدَّد في إطار الاتفاقية، فضلاً عن تشكيل لجان تنسيق مشتركة. وفي حال التفكير، بصورة إيجابية، تُثبت هذه الاتفاقية أنها تضع العراق تحت انتداب مؤسسي أجنبي.
يؤيّد المكوّنان السنيّ والكرديّ ضرورة بقاء الأميركي في إطار الاتفاق الاستراتيجي من أجل التوازن مع إيران وإكمال الحرب مع “داعش” وحماية أجواء العراق إلى أن يصبح له سلاح جويّ قوي، بينما تعتبر إيران أن أمن العراق مهمّ جداً لأمنها، وهو من أكثر دول الجوار الإيراني أهمية، بالنسبة إليها. أمّا السعودية فهي لطالما عملت على كسب المكوّن السني، بينما تنافسها تركيا في “المَونة” على هذا المكون، بفضل العلاقات التي نسجتها مع الإسلاميين في العراق، وهي تتمتع بعلاقة مميزة برئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البرزاني.
تتولى الكتل التي انبثقت من الانتخابات النيابية انتخابَ رئيس البرلمان، وهو الممثّل عن المكون السني، ورئيس الجمهورية، وهو ينتمي إلى المكون الكردي. أمّا رئيس الوزراء فيمثّل المكوّن الشيعي، بحسب الدستور العراقي، الشبيه باتفاق الطائف اللبناني، إلى حدّ ما. عمّقت نتائج الانتخابات الشرخَ بين قوى المكون الشيعي، الذي يُعَدّ المكون الأكثر عدداً في العراق، والذي نسج علاقات بإيران، كمعارض للنظام البعثي بقيادة الرئيس الراحل صدام حسين.
تؤثّر الخلافات بين أحزاب المكوّن الشيعي في المشهد السياسي العراقي، في ظل تأثيرات العلاقات بالولايات المتحدة وإيران. ويراهن المحيط العربي على الصراعات الشيعية من أجل إضعاف مؤيدي إيران في الداخل، بعد الحراك الشبابي الذي شهده العراق في عام 2019، وتمّ في إثره تعيين موعد للانتخابات المبكّرة التي شهدها العراق في تشرين الأول/أكتوبر 2021.
نجح التيار الصدري في الحصول، وحده، على أغلبية راجحة من الأصوات الشيعية، بينما استطاعت القوى الشيعية الأخرى، مجتمعة، وهي تحالف الفتح وائتلاف المالكي وبدر والحكمة والنصر، الحصولَ على القسم الآخر من الأصوات. وألّفت هذه القوى الإطار التنسيقي، الذي ضمّ القوى الشيعية، إلاّ أن قرار السيد مقتدى الصدر، رئيس التيار الصدري، اعتبر أن كفة القرار راجحة بالنسبة إلى تياره، وطرح تشكيل حكومة أغلبية سياسية مؤلفة من كل الكتل السنية والكردية التي نالت الأغلبية. ومع أنه استمرّ في مفاوضة الكتل السياسية الشيعية، فإنه لم يتوصّل إلى توافق معها بشأن تشكيل الحكومة، مع العلم بأنه جرت محاولات إقناعه، من جانب مقرّبين منه ومن إيران ومن الكتلة التنسيقية، بتوحيد البيت الشيعي، وإشراك زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، إلاّ أنه رفض الوساطات، على الرغم من وساطة حليفه البرزاني نفسه.
أوعز مقتدى الصدر إلى كتلته بمقاطعة جلسة مجلس النواب العراقي، والتي كانت مخصَّصة لانتخاب رئيس للجمهورية في السابع من شباط/ فبراير. المؤكد هو أن قرار الصدر بشأن التحالف استراتيجياً مع البرزاني، وتمسّكه بهذا التحالف، لن يتأذى بسبب المقاطعة وتشكيل حكومة الأغلبية الوطنية. قرار تجميد المفاوضات قبل جلسة البرلمان، التي كانت مقرَّرة لاختيار رئيس الجمهورية، طرحت أسئلة بشأن تجميد المفاوضات مع المكون الشيعي. هل أراد الصدر، من خلال إيقاف المفاوضات، إعطاء مساحة للقوى السياسية من أجل الوصول إلى نقطة مشتركة، أم أنه قلب الطاولة على مقولة الثلث المعطل، التي لوّح بها الإطار التنسيقي، وحاول الصدر، عبر المقاطعة، أن يثبت أن نسبة الثلث المعطل تقدَّر بـ 110، والإطار التنسيقي لا يملكها.
يبدو أن الصدر حاول بعث رسالة، مفادها أنه لا يتبنى شخصية مرشحة لمنصب بارز تدور حولها ملفات فساد، بالإشارة إلى ما جرى تداوله بشأن المرشح الكردي هوشيار زيباري، المرشح للرئاسة، بعد صدور وثيقة صادرة عن مجلس القضاء الأعلى تشير إلى استدعائه بسبب مصاريف مالية خاصة سُجِّلت على حساب الوزارة عندما كان يشغل منصب وزير الخارجية.
شدَّد الصدر على أن التحالف بين الصدريين والديمقراطي الكردستاني هو تحالف استراتيجي، وليس تكتيكياً. ومع ذلك، أراد أن يوجّه رسالة إلى حلفائه الكرد، مفادها أنه لن يقبل الوساطة من أجل التوافق السياسي بين الكتل الشيعية، بينما هو لا يتدخل في شؤونها السياسية، وذلك رداً على دعوات الكتلة السنية وكتلة البرزاني إلى ضرورة ترتيب العلاقات الشيعية الشيعية والتوافق فيما بينها. الرسالة الواضحة هي رفض التحالف مع المالكي، والرهان على عدم تماسك الإطار التنسيقي، وأن هذه الخطوة وجمود العملية السياسية سيُجبران بعض مكوّنات هذه الكتلة على التحالف مع الصدر، وترك ائتلاف المالكي والمستقلين وحيدين كمعارضة في البرلمان العراقي.
يمكن أن يكون التأجيل في مصلحة التوافق مع بعض الكتل داخل “الإطار” للتحالف مع الصدر من أجل تشكيل الكتلة الأكبر، كما أنه لن يؤثّر في التحالف الثلاثي بين الصدر وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف “السيادة”، بزعامة خميس الخنجر، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي. لكن، إلى أين سيتجه العراق في ظل هذا التحالف، وفي ظل إصرار واشنطن على تجميع حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة، ولمّ شملهم، وفي ظلّ الصراعات الدولية التي حدَّدتها واشنطن مع كل من روسيا والصين. أين ستحدّد الكتلة الصدرية مكانها في هذه التحالفات، وهل يمكنها أن تبقى أسيرة مواقف متقلّبة في ظل ثبات رؤى من حولها؟ وهل يمكنها أن تنأى بنفسها عن التحالف مع إيران، في ظلّ التجاذبات الموجودة حولها، أم أن السياسة الواقعية ستُجبرها على التموضع في سياق توافق عربي – إيراني ربما ينجح بعد عقد الاتفاق النووي بين أميركا وإيران.