الدكتورة نازك بدير | اسستاذة جامعية
على مرّ العصور، شهدت الدّول عقْد تحالفات، ونشوب صراعات. حيكَت المؤامرات داخل الأسر الحاكمة، فضعُفَ شأنها، واستصغر المتربّصون بها قدْرها، ما أدّى إلى انفراط عقدها، وتفسّخ أواصرها. والعلّة الأساسيّة في أغلب الأحيان هي فساد الحكّام، وانصرافهم إلى شؤونهم الخاصّة، وعزوفهم عن العناية بأحكام البلاد.
يزخر التّاريخ بنماذج عن امبراطوريّات تفكّكَتْ بفعل ثورات أوقدها غضب الشّعب، ردًّا على استفحال الظّلم. غير أنّ ما يخرج عن النّاموس، والعرف، والتّقليد، ويخالف المنطق هو أن تتكالب السّلطة على المواطنين، وتجترّ لحمهم الحيّ، وتنخر عظامهم ضرائبَ، وهدرًا، وفسادًا، وهم لا يحرّكون ساكنًا، لا بل ينتظرون من جلّادهم عقابًا أشدّ قسوة، ومهانة. لعلّ متلازمة ستوكهولم فقدَتْ دلالتها في البيئة اللبنانيّة، ولم تعد صالحة لتوصيف حالة ردود أفعال غالبيّة الشّعب، وكيفيّة مواجهته الظّلم الواقع عليه من المسؤولين. ما يحصل، فاقَ كلّ التوقعات، وشذّ عن جميع القواعد، والمعايير، والمقاييس. هي أزمة متوارثة، يبلغ عمرها أكثر من ثلاثين عامًا. تمكّنتْ شعارات السّلطة أن تتحوّل، مع الوقت، إلى ما يشبه المحمولات المقدّسة، في محاولة لانتزاع أصوات الناس، وابتلاع حريّاتهم، والعودة بالزّمن إلى الوراء، ليكون الحكم وراثيًّا، فلم يبقَ من الدّيمقراطيّة سوى الاسم، في حين، أنّ الواقع يعكس، من دون أقنعة، حالةَ العبوديّة، والتّبعيّة العمياء، والتّوريث السّياسي. وما محاولة تمسّك بعض الأحزاب، على اختلاف طوائفها، من حيث الظّاهر، بالتديّن، سوى محاولة لمضاعفة تخدير العقول من جهة، وحماية نفسها من جهة ثانية، لتبقى في منأى من دائرة الاتّهام، ولتمنع توجيه أصابع النّقد أو المساءلة إليها. وإن تجرّأ أحدهم، فسيتحوّل مباشرة إلى خانة الاتّهام، والعمالة، والانشقاق عن وحدة الصّفّ، والموقف، ويصبح ضدّ المصلحة الوطنية، والسّلم الأهلي، ومرتهنًا للخارج.
لعلّ ما آلت إليه الأمور في لبنان خارجة عن المألوف والسّيطرة، إذ ندر وجود نظير ما يحصل لشعب رُمي به في عمق ترسانة نوويّة مهترئة، وكلّ ما يحيط به ملوّث بالإشعاعات والنّفايات السّامة. لا نجاةَ من هذه الحياة القاتلة!
هنا، لم يعد المواطن يتكبّد عناء القلق على المستقبل، حتّى هذه” الرّفاهية” سُلِبَت منه؛ فما من مستقبل قريب، أو بعيد له أو لأبنائه أو لوطنه ليخاف عليه! يخشى أن يموت، ولا كفنَ يستر وجع سنيّ حياته أمام المصارف، والدّوائر الحكوميّة، وبفعل المراسيم الجائرة، والمحاصصات الطائفيّة. لم يبنوا دولة مؤسّسات، بل، مافيا” بوجوه مستعارة“، على حدّ تعبير خليل حاوي.