الدكتورة نازك بدير | كاتبة وباحثة لبنانية
حدث أن تعرّض لبنان على مرّ التاريخ إلى سلسلة من الاهتزازات السياسيّة والاقتصاديّة، وعند كلّ مفصل، كانت تتمّ المعالجة تارة باجتماع الأشقّاء، وتارة أخرى بتدخّل خارجي دولي، ولكن هذه المرّة، يراقب الجميع، بعد أن خابت محاولات الدعم، كيف يجري التدمير الداخلي الممنهج على الصعد كافّة، وفي طليعتها نظام التعليم الرسمي. وفي وقت سابق، سلّط البرنامج الدولي لتقييم الطلّابPISA الضّوء على صعوبة تحسين التعليم، وقد أظهرت النتائج افتقار الطلّاب، في الدول العربيّة المشارِكة، ومنها لبنان، إلى مهارات القراءة، والضعف في الرياضيّات، واللغة الإنكليزيّة.
في ظلّ هذه الأجواء، يصادف اليوم، في التاسع من مارس، عيد المعلّم حيث تستبعد الحكومة والسلطةُ المعلّمين والمتعلّمين والنظامَ التعليمي من اهتماماتها. التعليم ككلّ هو خارج حساباتها كونه لا يعدّ قطاعًا منتجًا كما هو حال الاتصالات، وليس مجالًا للهدر وللسرقة كي تخصّص له ميزانيّة عالية، وتستثمر فيه. هل حدث مثلًا أن اهتمّ وزير تربية أو رجل دولة بشؤون الطلّاب أو شجون المعلّمين أو أساتذة الجامعة؟ مَن منهم كلّف نفسه، وترْك مكتبه (قبل الإضراب) لمعاينة يوم من يوميّات تعليم في مدرسة ابتدائيّة أو متوسّطة أو ثانويّة على الحدود مع فلسطين أو في عكّار أو في الهرمل، أو في أيّة منطقة من المناطق؟ هل حدث أن اهتمّ أحد رجال التربية أو السياسة بالمتعلّمين مباشرة؟ بتفاصيل يومياتهم، وواكبهم وبذل من وقته، لا نقول من ماله الخاص، وأبدى حرصه عليهم، بعيدًا من غايات انتخابيّة؟ نتحدّث عن مشروع دولة، عن نهوض التعليم، لا عن جيل واحد أو دفعة معيّنة، عن سياسة تربويّة ورؤية مستدامة. هل فكّر أحدهم، على مدى السنوات الماضية، بالاستماع الجديّ إلى احتياجات المعلّمين، أم أنّهم بارعون في إبرام الوعود فقط؟
رئيس وزراء سنغافورة الراحل” كوان يو” كان يجري زيارات مفاجئة إلى الجامعات والمعاهد، ويتفقّد، في خلال عطلة نهاية الأسبوع، طلّاب السكن الداخلي، ويستمع إلى طلباتهم واقتراحاتهم. تبقى سنغافورة نموذجًا عن أبرز الدول التي حقّقت طفرة نوعيّة في استثمار رأس المال البشري: الطلّاب من جهة، والمعلّمون من جهة ثانية: الإعداد، والتطوير، والاستجابة الى الاحتياجات المتغيّرة وفاقًا للظروف. ومن أجل الوصول إلى درجة الامتياز النوعي في التعليم، كان لا بدّ من التركيز بشكل أساسي على كفاءة المعلّمين، وجميع العاملين في قطاع التعليم. وعلى الرغم من أهميّة المتعلّم في العمليّة التعلميّة_ التعليميّة، نُظِر إلى المعلّم على أنّه الركيزة الأولى بين ركائز تلك العمليّة. فتمّ الحرص على تنمية قدراته ومهاراته كافّة، وكان الارتقاء بمستوى كفاءة المعلّم من طريق تطويره وتدريبه بشكل دائب. وكذلك، تطوير برامج إدارة المدرسة من قبل فرق متخصّصة، واعتماد نظام تعليم مصمّم لتدريب المتعلّمين على وظائف يمكنهم شغلها فور التخرّج. وصُمّمت المناهج لتمكينهم من حلّ التحديّات التي تواجههم في معترك الحياة. في حين أنّ الطالب اللبناني يجد هوّة عميقة بين ما يدرسه، وبين الواقع نتيجة تحجُّر المنهج العائد إلى العام 1997، ولمّا يتمّ تحديثه بعد، وهو بعيد كلّ البعد من مستجدات الواقع، وما طرأ من تغيّرات زلزلَت المنطقة والعالم، وأربكت خارطة بلد كان فيما مضى درّة الشرق.
التغيير هو عمليّة متكاملة، وللمعلّم دور رياديّ فيها، فهو إلى جانب الأسرة، المربّي، والعين الساهرة على إعداد الأجيال وإلهامهم، وبناء شخصيّاتهم، وتوجيههم ليكونوا أحرارا، خلّاقين، مبدعين. لكن الدولة التي تحكم بالإعدام على حقوق المعلّمين والأساتذة، وتتنصّل من واجباتها أمامهم، هي بنفسها تقوّض دعائم بنائها، وتسرّع في انهيارها.