الدكتورة نازك بدير | كاتبة وباحثة لبنانية
على عكس ما بشّر به أقطاب العولمة، تبيّن الدراسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحضاريّة والسياسيّة والبيئيّة أنّها أخفقت في رفْع مستوى الرفاهية، وصارت وبالًا على حياة الكثيرين. النموذج الحضاري الذي نادى به الغرب لرفع المستوى المعيشي لم يعد صالحًا، فهم في بلدانهم يئنّون، وباتوا مقصّرين عن الوفاء بما تعهّدوا به.
العديد من الأشياء المرتبطة بالعولمة موجودة بالفعل مثل الاتفاقيّات التجارية العابرة للحدود، مجتمعات الفضاء الالكتروني. لكن العولمة كنظام لا وجود لها بالطريقة التي يتصوّرها البعض؛ لقد ظهرت بوصفها خطابًا هدفه التعتيم على نظام موجود بالفعل( الرأسماليّة).
طرحت العولمة وعودًا لكنّها لم تتحقّق كلّها: الحدود لا تزال قائمة، حريّة التنقّل على سبيل المثال لا تشمل الجميع. أدّت التكنولوجيا والاتّصالاتإلى توسيع أشكال المراقبة واستغلال العمالة. توزيع الثروات بين سكّان الأرض غير عادل؛ ثمّة دول محدّدة نسبتها 20% تستحوذ على الموارد الطبيعيّة. لقد فقدت الدول قرار التحكّم بسيادة قراراتها الاقتصاديّة وتوجّهاتها السياسيّة، وباتت خاضعة لقرارات صندوق النقد الدولي وتعسّف سياساته.
لعلّ ما يثير القلق ليس ارتفاع معدّلات البطالة فحسب، إنّما فرْض تعايش نسبة كبيرة من العاملين في الغرب كما في كثير من الدول العربيّة مع عقود عمل مؤقّتة لا تحميهم من مغبّة التسريح المفاجئ. لقد خسرت النقابات العماليّة تأثيرها ومنظورها، والعالم الهادئ الذي كانت تحياه “الطبقة الوسطى البيضاء” اختفى وتحلّل. أمّا مصطلحات من قبيل” التحرّر” و” التقدّم” و” العالم الثالث” فلم يبقَ لها معنى، على حدّ قول الكاتب المصري محمد سيّد أحمد.
ممّا تقدّم، تعدّ العولمة مشروعًا يرسّخ الهيمنة على خيرات الشعوب والسيطرة على موارد الطبيعيّة، والهيمنة على الملكيات الفكريّة.
ورد في كتاب” ما بعد العولمة” ل إريك كازدين وإمري زيمان أنّ العولمة جعلت الرأسماليّة غير مرئيّة بدرجة غير مسبوقة، إذ خبّأتها خلف مجموعة من التحوّلات التي تمّ التعامل معها بوصفها ظواهر شبه طبيعيّة. ولعلّ من أعظم سمات الرأسماليّة أنّها نظام يسمح بأيّ شيء ما عدا التدقيق الشديد في منطقها. إنّها “لا شيء”، لا يمكن الإمساك بها أو قياسها. لكن ما يحيط بها موجود في كل مكان: السلع، الرغبة الاستهلاكيّة، الأصفار الرقميّة التي تنقل الاتصالات، مساحات اللاشيء الموجودة بين الأشياء”، كيفيّة استغلالها من لدن رأس المال.
وإذا كانت الأنظمة المتوحشّة قد ابتلعت الدول والموارد وسيطرتْ على القرارات، ما أدّىإلى إنهاك الكثير من البلاد، وتقسيمها، وتدمير اقتصادها، وإفلاسها، وتشويش هويّتها، فهل سيكون نظام “ما بعد العولمة” أشدّ مَحْقًا؟ السنوات القادمة كفيلة بالإجابة.