كتاب الموقع

كتبت د . نازك بدير | ديستوبيا بيروت

الدكتورة نازك بدير | باحثة اكاديمية واستاذة جامعية

في حضرة بيروت، ينحسر الكلام، كما ينحسر الموج عن أقدامها، وهي لا تزال- بكبريائها على السان جورج- تعاند الصفقات، وتتحدى ما أفل، وما سيأتي. من هناك، تطل على ما تبقى من إهراءات القمح، تلملم أصوات الباحثين عن الحرية، والجمال، والعدالة، والمؤمنين بها مدينةً للسلام.

بيروت التي كانت نقطة الجذب والارتكاز في عالم المال، والاقتصاد، والسّياسة، ومنها تنطلق القرارات، المدينة التي يؤمّها المشاهير من كافّة أنحاء العالم، مركز الإعلان عن كل جديد في التّجارة، والصّحافة، والإعلام، وتصميم
الأزياء…
شارع الحمرا والمقاهي التي ألفَتْ وجوه المثقّفين والفنّانين العرب والعالميّين وضحكاتهم، هل لا تزال على حدّ تعبير محمود درويش” خيمتنا الوحيدة، نجمتنا الوحيدة”؟
مدينة الشّعر، والنّثر، والمسرح، والسّينما، والرّسم، والموسيقى، والفاعليّات الثقافيّة المتنوّعة على مدار العام.
هي الأقلام الجريئة، والإصدارات التي تخرق حجب الظلام، حلقات الحوار الحقيقي والجادّ والهادف والرصين. ملهمة الشّعراء والأدباء، قدّموها في أعمالهم وكأنها نموذج يوتوبيا، على الرّغم من أنّها خلال الحرب الأهليّة كانت مسرحًا لأحداث دامية، وتجارب مريرة، وتاليًا، كُتِب الكثير عن بيروت الحزن والوجع.
هي تشبه المنارة القريبة من على الشاطئ؛ يحدث أن يخبو نورها بفعل الأعاصير والأنواء، لكنّها تتمرّد على الموت والظلام، وإن كُتِبَت قصص تجسّد الغربة أو المجتمع المخملي فيها، لكن ثمّة خصوصية لبيروت تجعلها تقفز فوق كلّ حواجز المدن، فمن يزرها، يشعر أنّه فرد من أبنائها، واحد من أهلها، يعشقها ولا يغادرها إلّا مرغمًا. هي بيت لكلّ النّاس، تختبر فيه الألفة والمحبة، مدينة مصغّرة عن العالم.
مهما تكن طبيعة التحوّلات المريرة التي عرفَتْها، فهي تأبى أن تغيّر هويّتها. لا ترفع سواتر بينها وبين زائريها، ثمّة انصهار من نوع آخر، لا تجده إلّا على مقاعدها، وفي ثنايا شوارعها، وفي واجهتها المفتوحة على البحر.
بيروت ليست الوسط التجاري، ولا المقاهي المستحدثة فيه، هي أشجارُ جميّز، ورصيف، وبائع جرائد متجوّل، وأكشاك مجلّات وكتبٌ ينسى العابر نفسه أمامها. هي أمسيات شعريّة وموسيقيّة، هي مسرحيّات وأفلام تمرّدت على الواقع، وصنعت شخوصًا من دمع وشجن وضحك وسخرية، وأبدعت في إخراج ما عجز عنه السّاسة، هي الضّوء الذي نتلمسّه كلّما شعرنا بثقل الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى