تحليلات و ابحاثكتاب الموقع
كتبت د . نازك بدير | خطّة التّعافي رقم 2: التّسامح
الدكتورة نازك بدير | اكاديمية واستاذة جامعية
نموّ المجتمع وازدهاره مرتبط بدعائم أخلاقيّة، قد تفوق تلك الاقتصاديّة في أهميّتها. يأتي التّسامح في طليعة القيم الّلازمة لضمان نبْذ التّعصّب، ودرْء الفتن، وفهْم الآخر، وتقبُّل اختلافه، ولا سيّما في المجتمعات ذات التّنوّع الطّائفي، والمذهبي، والعقائدي، والدّيني، والحزبي، كما هو حال المجتمع الّلبناني.
ولقد أقرّ كثير من الفلاسفة بضرورة التّسامح من منظور أخلاقي، كون الإنسان غير معصوم من الخطأ(- كارل بوبر: مبدأ اللاعصمة من الخطأ.- جان لوك: الإنسان معرَّض للخطأ. – فولتير: حاجة الإنسان إلى التّسامح…) وهو يشكّل قانونًا أساسيًّا في التّعاليم البوذيّة في وجه التّعصّب والعنف. الدّيانات السّماويّة تعود جميعها إلى إله واحد، وتاليًا، لا اختلاف بين تعاليمها الجوهريّة التي تحضّ على التّسامح، وتنبذ الكراهيّة، وتدعو إلى قبول الآخر، واحترامه، وترشد النّاس إلى الخير والسّلام.
كم خسر، ويخسر اللبنانيّون، بسبب الأحقاد، وشُحّ التّسامح بين الأخ وأخيه، وبين الجار وجاره، وكم هو باهظ الثّمن الذي دفعوه على مرّ التّاريخ بسبب الحروب الطائفيّة التي لم توفّر أحدًا. اليوم كذلك، النّفوس مشحونة، ولو قيّض لجمهور كبير التصرّف بما تمليه عليه العصبيّة والغريزة، ولولا وجود بعض” الحكماء”، لتدفّقت الدّماء في الأحياء. تسير، فترى الشّارع مقسومًا، والرّصيف محاصرًا، وعربة بائع الخضار متراسًا، وصوت بائع القهوة رادارًا، وتمثال الشّهداء منتحبًا… تختلف الانتماءات والولاءات؛ في الأسرة الواحدة أفراد ينتسبون إلى أحزاب متصارعة، في المبنى نفسه أشخاص ينتمون إلى ديانات مختلفة، لكن، تجمعهم الأحزاب. وقد يقطن في الحيّ نفسه سكّان من مذاهب مختلفة، وكلّ فريق ينضوي تحت راية حزب، وقيادة،… ويختفي علَم الوطن.
نشْرُ التّسامح مسؤوليّة مجتمعيّة، تبدأ بتحفيز التّفكير الإيجابي عند الأطفال والمراهقين، وتوجيههم نحو القيم المثمرة، بدلًا من دفْعهم نحو التّيارات العنيفة. لن يصبح التّسامح سلوكًا عفويًّا، وجزءًا لا يتجزّأ من شخصيّة المرء بين ليلة وضحاها، إنّما هو حصيلة جهد تراكمي، تتكافل في نسْجه أطراف متعدّدة. وكلّما غذّته تلك الرّوافد، كلّما انعكس على الدّائرة المحيطة به محبةً، وانفتاحًا، وتسامحًا، وتقبُّلًا للآخر.
ثقافة التّسامحِ مفتاحُ حلّ الأزمات المستعصية، سواء بين الأفراد، أو بين الجماعات، وتؤسّس لبناء مجتمع نقيّ من الأمراض، قادر على مدّ يد المساعدة، منفتح، ليس قولًا فحسب، إنّما عن وعيِ تامّ، وقناعة، ويقين أنّ الحياة القائمة على التّسامح هي التي تفضي إلى الرّفاهية، والاستقرار، وسعادة الجميع.