الدكتورة نازك بدير | كاتبة واكاديمية لبنانية
إنّ مراقبة ما يحصل في لبنان على مدى السنوات الأخيرة ولا سيّما كيفيّة تفاعل المواطنين مع الأزمات المتتالية الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والصحيّة أظهر أنّ الأزمة الجوهريّة لا تكمن في القطاع الاقتصادي أو الاستشفائي، وليست قضيّة نفاد موارد، أو نقْص خبرات، أو انعدام القدرة على إدارة المرافئ العامّة، بل في التّعامي والصّمت المميت عمّا يحدث. ولكن، هل الدولة وحدها المسؤولة عن الوصول إلى هذا المستوى من الخراب والفساد؟ أم ثمّة مسؤوليّة مجتمعيّة لا بدّ من الاعتراف بها على الرّغم من مرارتها؟
” شراء الذمم” أدّى مع الوقت إلى نشوء” طبقة” مستفيدة ممّا يحصل، ولا يناسبها إطفاء أيّ من البراكين المنصهرة، بل على العكس، من مصلحتها تأجيجها بشكل مستمرّ. هذه الجماعات تعيش على فتات ما يرميه مساعدو الزعماء، تستميت في الدفاع عن مصالحهم طمعًا في تأمين وظيفة، أو الحصول على مساعدة استشفائيّة، أو عينيّة. وقد يصل الأمر بالبعض أن يقضي عمره” مناضلًا” في سبيل تبييض صفحة زعيم أملًا في نَيل رضاه.
أفرزت المنظومة الحاكمة حولها زمرة من المنتفعين، ربّتهم على الخضوع لتضمن استمراريّها وتكرّس شرعيّة وجودها. وكان لا بدّ من سنّارة خدمات تستخدمها في المكان والزّمان الملائمين، قبيل موعد الانتخابات النيابيّة أو البلديّة مثلا، أو عند قرب استحقاق أقساط الجامعات والمدارس، فيتمّ الضغط على الناس، واستغلال حاجتهم في ظلّ ركود الاقتصاد، وانعدام فرص العمل، وارتفاع معدّلات الفائدة، وتبخّر الودائع المصرفيّة.
ركون بعض فئات المجتمع إلى هذا النمط من العيش رسّخ مفهوم” التّنفيعيّة”، فصارت نهجًا معتمدًا ومقبولًا ومعترَفًا به في المؤسّسات والدوائر الحكوميّة والخاصّة، حتّى بات من الصّعب إنجاز أيّ معاملة، مهما كانت بسيطة، من دون المرور تحت قوس هيمنتهم، حتّى نافستْ في بعض الأماكن سلطةَ الدّولة.
الخروج من عباءة هذه المنظومة يكلّف أصحابها فقدان ميزات، وقد يعدّ تمرّدًا وطعنًا في الظهر، ورفضًا للخير في السنين العجاف. لذا تراهم مجبرين على البقاء تحت مسمّى المجموعة، ولا يتجرّؤون على تجاوزها خوفًا من” نبْذهم” واحتقارهم، واتّهامهم بالصعلكة، فيحاولون جاهدين الحفاظ على مكتسباتهم من جهة، والاجتهاد في سبيل إرضاء وليّ النعمة من جهة ثانية.
نجحتْ المنظومة في الاشتغال على بنية الوعي والتّحكّم فيها والسيطرة عليها، وطوّعت أعدادًا كبيرة لتعبيد دروبها إلى السلطة، ولضمان استمراريّتها وامتدادها مهما انقلبت الموازين، وتغيّرت المعادلات في المنطقة والعالم. لذا قد يكون من الصّعب جدًّا أن نجد في لبنان” الصّعاليك الجُدد” يتمرّدون، لا يُباعون ولا يُشتَرون.