الدكتورة نازك بدير | كاتبة واستاذة جامعية لبنانية
أن تتحوّل بلاد الأرز إلى سحابة صيف عابرة، ومعها ترى أحلامك وطموحاتك غبارًا لا يجد أوراقًا تعالق ذرّاته، ولا تبقى شرفات يرسو عليها القليل منه قبيل رحلة إقلاعه مع ريح جديدة، وقد تمرّ غيمة زائرة فيذوب فيها ولا وصول. في مساره هذا أتيح لتلك الجزيئات فرصة الارتفاع عن دنس متاهة كُتِب على كلّ مولود فيها أن يعايش الآلهة الجُدد ذوي صفات يتفرّدون بها عن تلك التي عرفتها البشريّة؛ صحيح أنّهم على الكوكب نفسه، غير أنّ سماتهم مغايرة تمامًا، يظنّ المتأمّل في أطباعهم وسلوكهم وأفعالهم وقدراتهم أنّهم وفدوا من مجرّة أخرى، مع العلم أنّهم من حيث الشكل الخارجي يتقاطعون مع” إخوتهم” اللبنانيين في الملامح العامّة. لكن ثمّة إشكالية عصيّة على التصديق؛ القيّمون على منظومة الحكم في لبنان_ ويمكن القول منذ تأسيس ما سُمّي بدولة لبنان الكبير إلى اليوم_ هم بالتناوب يتشاركون في سلسلة جينيّة ذات صِبغات فريدة تتجلّى في النزوع إلى الشرّ وانعدام الرحمة. جميعهم متواطئون ومسؤولون عمّا آلت إليه الأمور، وإن لم يشاركوا بطريقة مباشرة في إراقة الدماء أو الترويع والتهجير والسرقة والفساد، فهم مراقبون وداعمون، لا بل حماة الفاسدين والسدّ المنيع في وجه مَن يهدد حصونهم. كلّ مَن في السلطة يختزن من هذه الجينات الغريبة عن الطبيعة الكونيّة. في نفوسهم حمولة حقد من نوع غريب لا نظير له في التاريخ القديم ولا الوسيط ولا الحديث.
الفساد الأخطبوطي لا انفكاك منه، يحرّك ببطء أرجله السامّة، يدرك جيّدًا كيفيّة توزيعها، يحرق سعر الليرة، ويرفع الدولار، يزداد التضخّم، وضحايا المواطنين تتكدّس أمام حاويات النفايات.
الجرائم التي حصلت وتحصل في حقّ اللبنانيين، منذ عقود إلى اليوم، لم يُحَاسب عليها أيّ رئيس مؤسّسة أو دائرة في أيّ موقع كان! بينما نرى في الدول المتحضّرة، والسائرة على درب التحضّر، يُحاسَب المسؤول متى يخطئ، ويطبّق القانون بعدالة على الجميع من دون استثناء.
في الختام، من البدهي أن يكون ضمير المرء هو الصوت الأوّل والأخير الذي يرافقه في حياته الخاصّة والعامّة، ولكن مع انتفاء وجوده عند” الآلهة الجدد” أصحاب الجينات الغريبة عن البشريّة، ومع استشراء الفساد بشكل غير مسبوق، والتدمير الممنهج المتدحرج، لا مناصَ من العدالة الإلهيّة، ولو بعد حين.