أ . د . بثينة شعبان | مفكرة عربية
أولاً دعونا نتفق على أنه لم يعد هناك ما يمكن تسميته بـ «الأسرة الدولية» أو « المجتمع الدولي» لأن هذا المصطلح نشأ واستُخدم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي ليدلّ أولاً وبشكل أساسي على رغبة «الدول الغربية» و «حلف الناتو» بالاستفراد بالقرار الدولي بعد إنهاء حلف وارسو؛ حيث كان الاتحاد الروسي منشغلاً بإعادة ترتيب بيته الداخلي، وكانت الصين مركّزة على تحقيق رؤيتها لنموّها الاقتصادي قبل أن تقرر المشاركة الفاعلة في المنظومة الدولية. أما اليوم، وقد أعاد الاتحاد الروسي ترتيب أولوياته، وانطلقت الصين كقوّة اقتصادية وتقنية وسياسية في العالم، فلا يجوز استخدام مصطلح «الأسرة الدولية» ليشمل فعلياً الدول الغربية ودول الناتو ودول «الجي 7» كما سمّتها وزيرة خارجية بريطانيا في هجومها الحادّ الأخير على الرئيس بوتين من مدينة سيدني الأسترالية.
اليوم هناك الدول الغربية المنضوية تحت لواء «الناتو» و«الجي 7» وهي الدول الاستعمارية المعروفة والتي لا تضمّ دولاً أساسية في العالم وهي الصين و روسيا و إيران ومنظمة البريكس ومنظمة شنغهاي وعدداً كبيراً من الدول من كوبا وفنزويلا وتشيلي و كوريا الديمقراطية وباكستان سورية واليمن، إلى عدد لا يحصى من الدول الطّامحة إلى نيل الحرية والاستقلال والندّية في التعامل الإقليمي والدولي، وهناك أيضاً منظمة الأمن والتعاون الجماعي التي تضمّ عدداً من دول الاتحاد السوفييتي السابق بما فيها روسيا طبعاً التي تعمل اليوم وبشكل واعٍ ومدروس على حماية أمنها وحدودها من التوسع العدواني الغربي للناتو شرقاً على حدود روسيا والصين.
وكانت أزمة كازاخستان أكبر شاهد على هذا الصراع المحتدم بين جهود دول الشرق للحفاظ على استقلالية دوله والمحاولات العدوانية للغرب الاستعماري قضم دولة إثر أخرى للانضمام إما للاتحاد الأوروبي أو إلى الناتو، وذلك بغية توسيع وتعزيز محوره في وجه الشرق الذي يشهد نموّاً متصاعداً من الصّعب العمل على كبح جماحه أو حتى الحدّ منه، ويشكّل ذلك تهديداً لسياسات الهيمنة الغربية على ثروات الشعوب وأسواق الدول.
وفي هذه النقطة بالذات تكمن معضلة عالم اليوم: بين غرب اعتاد على العمل مع ومن خلال الحلفاء ضدّ دول منفردة بعينها، وبين شرق تنبّه إلى أهمية بناء التحالفات ليواجه من خلالها التحالفات العدوانية الغربيّة التي تستهدفه، وليستخدم الأسلوب عينه الذي مازال الغرب يستخدمه منذ عقود للسيطرة والهيمنة على العالم، ولكن الفرق يكمن في أنّ الشرق يحاول فقط أن يحمي دوله وحدودها في وجه الأطماع والتمدّد الغربي وهو يبني تحالفاته على أساس السيادة والاستقلال والاحترام المتبادل بين الدول، كما يبني رؤيته المستقبلية على أسس سياسية وأخلاقية مختلفة كلّ الاختلاف عن الأسس والسياسات الاستعمارية الغربية؛ فهو لا يسعى إلى نهب ثروات الشعوب والسيطرة على مقدراتها بقوّة السلاح، كما تفعل الدول الغربية، ولكنه يسعى إلى التنمية المستدامة في كل دول العالم والمشاركة في العلم والبحث والتقنيات لأن الشرق يؤمن بأن ازدهار أي دولة يعتمد في النتيجة على ازدهار الجميع، ومن هنا أتت فكرة «حزام واحد طريق واحد» من الصين لتخلق تشاركية غير مسبوقة في الاقتصاد والعلاقات السياسية والثقافية والمجتمعية بين دول العالم.
إلا أن هذا التفكير أو هذه الرؤية الشرقية للأمور لا يمكن أن تقنع الغرب المعتاد على حروب النهب والتدمير والقتل لأنّ المنظور الغربيّ مستند على ركائز تتناقض كليّاً مع أسس التوجه والانطلاق التي وضعها الشرق لنفسه، ولذلك ما إن ألقى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خطابه في البرلمان الروسي وعبّر بسعادة عن النقاط المشتركة التي تداول بها مع الرئيس فلاديمير بوتين وأن إيران تنوي توقيع اتفاقية إستراتيجية مع روسيا للعشرين عاماً القادمة إلى أن انبرت « النيويورك تايمز» لتقول إن «إيران وروسيا تتّحدان ضدّ الولايات المتحدة» وجريدة «التايمز» في الكيان الصهيوني تختار العنوان: «في موسكو بوتين ورئيسي يؤسّسان لروابط في لحظة مصيرية للاتفاق النووي الإيراني»؛ أي إنهم فهموا أنّ أيّ اتحاد بين دولتين في الشرق هو حتماً ضدّ الولايات المتحدة وهو أيضاً مصدر قوة لمصلحة إيران في اللحظة الحاسمة بالنسبة للاتفاق النووي الإيراني، ذلك لأن الغرب استخدم، ولا يزال، تحالفاته كمصدر قوّة عدوانية أساسيّ في وجه الشرق أو في وجه أيّ دولة تفكر بتحدي سلطته وهيمنته؛ ومن هنا يمكن أن نفهم الذعر الذي عبرت عنه وزيرة الخارجية البريطانية في سيدني بأستراليا.
مع أن وزيرة الخارجية البريطانية «ليز_توس» كانت تظنّ أنها تتحدث بلغة القوة وتهاجم الرئيس بوتين وخططه من أجل أوكرانيا، وتعتبر أيّ دولة تعقد اتفاقاً مع روسيا أو إيران أنها دولة تابعة وأن دول الناتو ودول «الجي7» سوف تدعم أوكرانيا ولن تسمح للرئيس بوتين بأن ينفّذ خططه، إلا أن لغة الجسد ولهجة الصوت قد خانتهما وكانتا أقوى من كلماتها وعباراتها؛ حيث عبرت لغة الجسد والصوت عن خوفٍ كامن بين ثنايا الكلمات والتعابير العدوانيّة بأنّ الرئيس بوتين وحلفاءه يخلقون واقعاً جديداً وتحالفات حقيقية على الأرض لن يتمكن الناتو ولا دول «الجي7» الاستعمارية من زعزعة أسسها أو النيل من أهمية دورها الذي دون شكّ سوف يكبر ويتطور في المستقبل. وأضافت الوزيرة توس إنه: «على الرئيس بوتين أن يتخلّى عن حلم إعادة خلق الاتحاد السوفييتي» وهو الاتحاد الذي ساعد حركات التحرّر العالمية على تحقيق استقلال دولها وحرية شعوبها من الاستعمار.
لاشك في أن الوزيرة وزملاءها الغربيين يعرفون حقّ المعرفة أنّ الرئيس بوتين لا يحاول إعادة خلق الاتحاد السوفييتي ولكنه يعمل مع شركائه في الصين وإيران وأميركا اللاتينية ورابطة الدول المستقلّة على خلق واقع دولي جديد أشدّ خطورة على خطط الغرب وهيمنته من الاتحاد السوفييتي لأنه قائم على تعاون دولي يتجاوز الدول الناطقة بالروسية ودول الاتحاد السوفييتي السابقة، مع أنه يضمّ عدداً منها، ويقارع الغرب في الأخلاق والسياسة والاقتصاد والمال والقوة العسكرية، ومن هنا منبع الخطورة ومسبّب الذعر الذي عبّر عنه الغرب بطرق مختلفة بعد الاتفاقات الإستراتيجية بين إيران والصين وبين روسيا والصين، وبعد العمل الجاد على «حزام واحد طريق واحد» من قبل عشرات الدول في العالم، وبعد أن عبّر قادة الصين وروسيا ودول البريكس ودول شنغهاي عن منظومة علاقات جديدة على أسس مختلفة تماماً عن الأسس الغربية وبأخلاقيات جاذبة لكلّ الطامحين إلى الحرية الحقيقية والديمقراطية الحقّة وحكم القانون الدولي.
اليوم حين تحدثت وزيرة الخارجية البريطانية عن أن الدول الغربية هي حامية الحرية والديمقراطية وحكم القانون تقع كلماتها على آذان صمّاء على وقع قصف طائرات التحالف الأميركي البريطاني معهداً تقنياً وجامعة اقتصادية في مدينة الحسكة السورية، وتنظر إليها العين وهي تستذكر عشرات الشاحنات الغربية التي تسرق النفط والقمح السوريين من شعب متعب من آثار حرب إرهابية ظالمة شنّتها دول حلف الناتو ضدّ الشعب السوري المسالم، وهي الآن تفرض إجراءات قسرية ترقى إلى جريمة بحقّ الإنسانية فرضتها عليه هذه الدول الغربية ذاتها التي شنّت أكثر من 88 حرباً خلال المئتي عام الماضيتين ومازالت مستمرّة، والتي مازالت تعيش في عصر تعتقد فيه أن الناس ما زالوا يأخذون تصريحاتها عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تسحقّها جيوشها المتوحّشة، على محمل الجدّ، في الوقت الذي تتناقض فيه أفعالها على الأرض تناقضاً صارخاً مع كل ما تقول وما تدعي.
لقد أفل عصر المجتمع الاستعماري الغربي والهيمنة الإمبريالية الذي كان يطلق على نفسه مسمّى «الأسرة الدولية» و«المجتمع الدولي» وبزغ فجر أسرة دولية مختلفة تماماً من الشرق، كما أنّ الشمس تشرق دائماً من الشرق، وسنعيش فترة صِدام واحتدام بين معسكرين وأخلاقيتين ومنظومتين من الأسس السياسية المختلفة تماماً، ولكن المستقبل حتماً هو للمؤمنين الفعليين بحرية الإنسان وكرامته والمساواة بين البشر بعيداً عن هيمنة الغرب وحروبه وإرهابه واحتلاله.