الدكتورة بثينة شعبان | المستشارة الخاصة للرئاسة السورية
نشر تلفزيون سي أن أن في موقعه مقالاً بتاريخ 22/6/2022 بعنوان “نقطة كبيرة لصالح بوتين: في قمة البريكس ببكين بوتين يعود إلى مسرح العالم”، مع أن بوتين كان منذ أيام يستضيف القمة الاقتصادية في مدينة سانت بطرسبورغ، والتي شارك فيها عدد من زعماء العالم، ولكن قمّة البريكس لها معنى آخر بالنسبة إلى الغرب، وفي هذا التوقيت بالذات لديها أهداف تستدعي مراقبة الغرب وحذره وربما تخوفاته أيضاً.
قمة البريكس التي تضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا: دول لديها اقتصادات ضخمة تمثل 40% من اقتصاد العالم وتشكّل بديلاً حقيقياً وندّاً لقمّة جي 7 التي ستُعقد قريباً. ومن خلال قرار قمّة البريكس دعوة دول أخرى نامية إلى الانضمام إليها، ومن خلال دعوة بوتين القمّة إلى البحث عن عملة مشتركة لدول البريكس، ما يعني استغناء هذه الدول تدريجياً عن التعامل بالدولار، فإن هذا يُعتبر إنذاراً يحمل مخاطر جمّة للهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي.
انعقدت قمة البريكس (وإن كانت افتراضية) في توقيت يعاني فيه الغرب من أزمة غير مسبوقة، ومرشحة للازدياد، وربما للتفاقم والخروج عن السيطرة خلال الشتاء والعام المقبلين؛ ففي اليوم نفسه، أي في 22/6، كان عمال السكك الحديدية في بريطانيا ينفّذون إضراباً هو الأوسع منذ ثلاثين عاماً، وجرى إلغاء عشرات الرحلات في المملكة المتحدة بسبب نقص اليد العاملة والفوضى التي أحدثتها قرارات التعامل مع جائحة كوفيد ومع أحداث أوكرانيا، كما أُلغيت 50 رحلة جوية داخل الولايات المتحدة الأميركية للأسباب ذاتها.
هذا إذا لم نتحدث عن التضخم والركود اللذين بدأت الاقتصادات الغربية بالدخول فيهما، وغلاء الأسعار، وبدء بوادر تململ وغليان شعبيّين من نتائج هذه القرارات، وقد يتطور هذا المشهد إلى تفكك الموقف الأوروبي والغربي، وتراجع بعض الدول الغربية عن مواقفها من روسيا، والعودة إلى التعاون، أو حدوث اضطرابات داخلية في الدول الغربية من الصعب التنبّؤ بنتائجها، أو الاحتمالين معاً.
اللافت هو أنه في التغطية الغربية لقمة البريكس اختفت مصطلحات كانت قد أرهقت آذاننا بانفصامها عن الواقع، مثل “الأسرة الدولية”، والتي استخدمها الغرب دائماً للإشارة إلى الكتلة الغربية، معتبراً نفسه ممثلاً لضمير العالم برمّته وشعوبه. كما اختفى مصطلح “المجموعة الدولية”، التي أيضاً كانت تُستخدم للإشارة إلى الغرب، وكأن هذا الغرب ممثّل شرعي للعالم برمّته.
اليوم اعترف الغرب بأن هناك مسرحاً متنوّعاً للعالم، وبأن عدداً من الفاعلين المهمين يحتلون مشهد هذا المسرح، وبأن الغرب له منصة، ولكنّ هناك ممثلين آخرين ودولاً وشعوباً يعتلون المسرح، من دون أن يشملوا ممثلاً واحداً للغرب، والأهم من ذلك، هو أنهم كتلة وازنة ولديهم أفكارهم وخططهم واستراتيجياتهم التي تطرح أفكاراً وآراء ومبادئ تمثل النقيض الصارخ لكل ما يمثله الغرب ويسعى إلى تحقيقه من هيمنة، من خلال الحروب والعقوبات والإرهاب ونشر الأوبئة، بهدف نهب ثروات الشعوب واحتلال أراضيها. فقد أعلن بوتين، في قمّة البريكس، أن سياسة الاقتصاديات الكلية في روسيا أظهرت فعاليتها وسط ضغط العقوبات، وأضاف: “إننا نعمل بنشاط لإعادة توجيه تدفقنا التجاري وجهات اتصالاتنا الاقتصادية الأجنبية إلى شركاء دوليين يمكن الاعتماد عليهم، وأوّلهم، وقبل كل شيء، دول مجموعة البريكس”. إن هذه النقاط الثلاث تشكل تحوّلاً جوهرياً في الاقتصاد العالمي، ستكون له آثاره الكبرى على توازن القوى في العالم، خلال السنوات القليلة المقبلة.
أما الرئيس الصيني شي جين بينغ فقد طرح أسئلة وجودية عن توجهات العالم المستقبلية: إلى الحرب أم إلى السلام؟ إلى التنمية أم إلى الانكماش؟ إلى الانفتاح أم إلى الانغلاق؟ هل يتجه العالم إلى التعاون أم إلى المواجهة؟ وفي أجوبته الحكيمة عن كل هذه الأسئلة مشفوعة بالحكم والأمثلة الصينية الناقلة لخبرة البشرية لآلاف السنين، برهنَ بما لا يقبل الشك، أن أسئلة الشرق متّجهٌ إلى التعاون والسلام والتنمية والانفتاح. وذكّر بمبادرته المهمة التي طرحها، “مبادرة الأمن العالمي”، التي تدعو دول العالم كافة إلى التمسّك بمفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، والتمسك باحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها، والتمسك بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده، وبإيجاد حلول سلمية للخلافات والنزاعات بين الدول من خلال الحوار والتشاور. وأضاف بينغ: “أما الانغماس في موقع القوة وتوسيع التحالف العسكري والسعي وراء الأمن الذاتي على حساب أمن الدول الأخرى، لأمر سيؤدي حتماً إلى مأزق أمني”.
إذا ما أجرينا مقارنة سريعة بين جملة المفاهيم التي طرحها بينغ في كلمته المهمة، والتي يلخّصها المثل الصيني الحكيم: “إن الجبل يصبح شامخاً لأنه لا يرفض أي تربة تتكدس فيه، والبحر يصبح عميقاً لأنه لا يُبعِد أي نهر يصبّ فيه”، والذي يمجّد القيم المتمثلة في الشمول والنفع للجميع، نجدها تتناقض جوهرياً مع الأسس التي ارتكزت عليها الأنظمة الغربية، وخاصة ما يسمى النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية، والذي يستند أصلاً في تمويل انتخاباته إلى “منظمة الأسلحة” ومصانع السلاح المرتبطة بالأجهزة الأمنية المتطرفة، التي تمتهن إشعال الحروب بهدف بيع الأسلحة بمئات المليارات، والتي لا يمكن لمرشح أن يفوز كعضو في الكونغرس أو كرئيس إذا قرّرت حجب الأموال عنه وعدم دعمه.
إذا كانت منظمات مالكي صناعة السلاح تقف سداً منيعاً في وجه أي قرار يطمح إلى منع بيع الأسلحة داخل الولايات المتحدة رغم عمليات القتل المشينة في مدارسهم، فكيف يمكن لهذا النظام أن يقارب دعوات شي جين بينغ إلى الشمولية والأمن للجميع والتنمية المستدامة والاحترام والمساواة في الكرامة بين الدول؟!
لقد عرضت روسيا تجربتها في التعامل مع العقوبات الغربية بنجاح، وإيجاد البدائل، وأنها صدّرت نتائج هذه العقوبات إلى الذين فرضوا هذه العقوبات عليها. كما قدّم اجتماع البريكس وكلمة شي جين بينغ المهمة خريطة طريق لمستقبل العالم تلخّصه الشمولية والأمن والسلام والرفاه للجميع، لا لكتلة واحدة اعتادت نهب ثروات الشعوب ودعم الاحتلال والإرهاب والاستيطان وبث الفرقة والطائفية لإضعاف الدول والتمكن من نهب ثرواتها.
مسرح العالم اليوم مسرح يدعو إلى التفاؤل، ويحفّز الجميع لامتلاك الرؤية والإرادة والسير في ركب التخلص مرة وإلى الأبد من النفاق الغربي، ودوره المعروف في إشعال الحروب والفتن، بغية الاستمرار في أشكال متعددة من استعمار الأرض أو الإرادة والضمير.