بيانكا ماضية | أمينة التحرير للشؤون الثقافية والفنية لدى صحيفة الجماهير – حلب
عبر حفر الأنفاق كانت محاولات الإر*هابيّين المتمركزين في محيط قلعة حلب الوصول إلى داخل القلعة، ولكن من في داخلها قد عاهد الله على حمايتها وحماية أهل حلب، فسقوط القلعة في أيدي أولئك المسلّحين يعني سقوط حلب.
عبر سنوات خمس (1800 يوم) كانت عمليّات صدّ الهجوم على القلعة على أشدّها، فبعد إحراق أسواق المدينة وتهديم الجامع الأموي، تربصّ هؤلاء بالقلعة لاحتلالها، لكنّ الأسودَ التي صمدت وحمت القلعة كانت لهم دائماً بالمرصاد.
إنهم حماة القلعة الثلاثون الذين سطّروا ملحمة أسطورية في الدفاع عن القلعة، عقيدتهم (إن لم تكن مع الحق والحق هو الله، فأنت حتماً مع الباطل وهو الشيطان، فكن مع الله ولا تبال) هذه هي الكلمات التي كانت مستقرّة في قلوب هؤلاء الرجال الذين لا يهابون الموت بل متشوّقون للقائه؛ لأنهم مؤمنون بقضيتهم، ويدافعون عنها في سبيل الحق.
المواجهات الضاريّة التي استمرّت لمدة طويلة بين هؤلاء المسلّحين وحماة القلعة الثلاثين لم تضعف من عُضد أبطال الحامية، فقد ثبتوا فيها ثبات الأسد في عرينه، متحصّنين، مظلّلين بعشق الوطن، وبالإيمان بعقيدتهم القتاليّة، لذا عجز الشيطان وأتباعه عن مجابهتهم، إذ كانت بنادقهم تطلق حجارة من سجّيل، وكانت عيونهم الساهرة تشعّ برقاً يجزع منه أعداؤهم، فيملأ قلوبهم خوفاً ورعباً.
.في لقائنا مع الملازم أول علاء أحد أفراد حامية القلعة، يحدثنا عن بعض من عمليّات الصدّ والهجوم التي تعرضوا لها، وكيف حموا القلعة من شرّ المرتزقة، بالقول:
حاولوا مراراً الهجوم على النقاط والكمائن التي تؤمّن الطريق إلى القلب الذي ينبض لإحياء جسده الذي يسكن فيه، وهو القلعة، ولكن هيهات أن ينال من رجال الله هؤلاء الشياطين.
وعندما عجزوا عن أفكارهم الهجومية لجؤوا إلى حقيقتهم والنشأة الأولى، وهي الغدر، وبدؤوا بحفر الأنفاق باتجاه هذا القلب النقي (القلعة)، وحاولوا فتح وريد جديد إلى هذا القلب، ولكن القلب النقي لا يتقبّل الدم الفاسد.
أول نفق لهم وصل إلى سور القلعة الشمالي، معتقدين أنّ من في داخلها نائمون، وأنّ باستطاعتهم خداعهم، وعند سماع صوت الحفر بدأنا بالعمل لمفاجأتهم والاستهزاء بهم، وكنا نطلق ونحن نقوم بعملنا النكات ونستهزئ بهم.
ويتابع: بدأنا العمل والحفر باتجاههم، واستغرق العمل أكثر من شهر حتى اقتربنا منهم، وأصبحنا نسمع أصوات شيطانهم الكبير (شيخهم اللعين القميء) وهو يحثّهم على الجهاد، وأنهم شهداء حيث تنتظرهم حور العين، وما شابه من هذا الكلام.
وعندما عرفوا أنهم انكشفوا، وهم يعلمون أنهم لا يستطيعون مجابهة حامية القلعة الذين تحرسهم عين الله، قاموا بتفجير النفق تحت السور الشمالي للقلعة، وتوقف صوت الحفر.
استلمتُ القيادة من النقيب أحمد، واستغرقت في التفكير لعدة أيام ومراقبة نتائج التفجير، ثم تسللت أنا والأخ والسند (ثائر) وعنصرين آخرين إلى مكان التفجير، وبدأنا العمل هناك لمدة ثلاثة أيام متتالية دون طعام أو شراب أو نوم، يمدنا الله بالقوة، وبعد هذا العمل وجدنا هدفنا (النفق)، ولكن كان مدخله صغيراً، فربطنا عنصراً بحبل وأدخلناه في الفتحة، ثم سمعناه يقول: يوجد كاميرا اسحبوني… فسحبناه.
(يوجد كاميرا، إذاً يوجد أنفاق).. هكذا بدأت بالتفكير، وبدأنا العمل حتّى نوسع من مدخل النفق إلى أن ظهرت الكاميرا. دخلت النفق متسللاً إليها، لم ألمسها، لكن بدأت بالنظر فيما حولها، فإذا بعبوات ناسفة ومتفجّرات، فقررت إزالة الكاميرا، وكان ذلك في صباح اليوم الرابع (٢٣/٧/٢٠١٥)، فككتها وأصررت على تفكيك الألغام، وبدأت المشاورات فيما بيننا (لا تفك-لا تفك- طول بالك… إلخ) لكني قلت لهم أخيراً: سأعمل على تفكيكها، وماكتبه الله ستراه العين، وهذه الروح بيد الله خالقها، فأن أموت أفضل من أن تصبح القلعة بأيديهم، لكن إن انفجرت حاولوا أن تبحثوا عني.
قمت بتفكيك الألغام كاملة وباقتحام النفق مع ثائر والرفاق، واشتبكنا مع المسلحين بداخله، وقتلنا منهم واحداً على الأقل، لأنهم انسحبوا منه، ثم قمنا بتفجيره مما أخّرهم لسنة كاملة تماماً حتى ١٠/٧/٢٠١٦.
ويتابع الملازم أول علاء: هذه أولى مهامي التي قمت بها، وكانت ناجحة بفضل الله وبفضل رجال الحامية.. وعاد النقيب أحمد وشرحت له ماحصل معنا، وما سنعمل عليه، وبدأنا معاً بوضع خطة حراسة جديدة والتنصّت المستمر بوساطة (سماعة الطبيب) وجهاز تنصت آخر، والعنصر الأهم الذي هو رجال الحامية.
وبعد مرور عام على محاولتهم الأولى ظنوا أننا غفلنا عن نجاستهم، وتوهّموا أنهم سينتصرون على إرادة الرجال التي لا تقهر.
وصل نفقهم الثاني إلى داخل القلعة واستطاعوا النفاذ منه إلى الداخل، وكان بانتظارهم الشهيد البطل علي إسماعيل الذي ضحّى بروحه الطاهرة وروى بدمائه الزكية تراب الوطن وحامية القلعة، وهنا اشتبكت الحامية مع المجموعة المتسللة، وأصيب النقيب أحمد، وخسر عينه التي حرستنا جميعاً، والتي كانت يقظة حينما ننام.
ولكنهم عادوا محمّلين بنجاساتهم ودمائهم القذرة والنتنة، وعندما فشلوا مرة أخرى كما في كل مرة، بدؤوا بتمهيد عنيف مستخدمين مدفع جهنم… كنا نشاهد نيرانه تطير منهم وإليهم، فيد الله فوق أيدينا تحمل عنا هذه القذيفة (الجرّة) وترميها عليهم، تسع قذائف أربع منها خرجت من غرب القلعة وأخطأت هدفها شرقاً، وأربع أخريات أطلقت من شرق القلعة وأخطأت هدفها غرباً، إلى أن خرجت التاسعة وأنا أراقبها بتمعن وأرى أنها ستسقط وستصيبني، ولبثت أراقبها ومتحسّباً ارتطامها بجسدي إلى أن رمى أحد المقاتلين نفسه عليّ، وسقطنا أرضاً، ونطق بالشهادة، وكبّرت وقلت الله أكبر من كل جبار معتد.. وسقطت القذيفة، وكان سقوطها في منتصفنا، فيما رحنا ننتظر انفجارها.. ورأيت (صبحي) أحد الجنود على الأرض مصاباً، وركضت إليه وعلت الأصوات أن انتبه إنها لم تنفجر بعد، طبعا لن تنفجر فارتطامها بكتف هذا الجبل (صبحي) حرف مسارها، وبترتيب الله وقدرته ولطفه ورحمته لم تنفجر، ومجدداً انتصر الحق على الباطل.
ويختتم بالقول: دائماً هناك فداء يجب أن نقدّمه حتى الأنبياء قدموا أنفسهم فداء عن أمتهم، فكلّ بما استطاع، رحم الله شهداءنا الأبرار، وقدّست دماؤهم الزكية وأرواحهم الطاهرة.
وهكذا تم الدفاع عن قلعة حلب من قبل حامية القلعة الثلاثين الذين استشهد منهم من استشهد، وجرح منهم من جرح، كيلا يتسلل أحد من الإرهابيين إليها فيستولوا عليها.
قلعة حلب، إحدى أقدم وأكبر القلاع في العالم، بقيت رمز الصمود كما شأنها في كل الحروب التي شهدتها، من يدخلها لحراستها تحتضنه بحجارتها البيضاء، تدافع عنه كما يدافع عنها، فتكون حامية لجنودها كما يكونون حماة لها.. وفي هذا العصر الذي شهدت فيه حلب أبشع الحروب، وشهدت قلعتها عدة تفجيرات نالت من مدخلها وسورها وقاعة عرشها، إلا أن أعداءها لن ولم يستطيعوا دخولها بفضل الأبطال الذين استحقّوا لقب “حامية القلعة” بامتياز.