كتبت بيانكا ماضية | بوابة مهاجر
بيانكا ماضية | كاتبة سورية
كيف أشرح لهم ، بل كيف أشرّح ذاكرتي لأريهم تاريخاً لايعرفونه ، قد يعرفونه ولكنهم يتجاهلون لآلئه وماساته ، أأفتح لهم حقائبي التي حملتها معي وفيها كل مايربطني بوطني؟!!
ما الذي يجعلني أقف أمام هذه البوابة التي لاتتسع لأحلامي ، أقف وأنا أخبئ في مسامات الجسد كل التاريخ الذي قرأته ، كل الشواهد التي أراها منتصبة الآن أمام عيني ، كل الحضارات التي تعاقبت على أرض وطني … قد تكتشفها مجسات التفتيش هذه التي تنتظرني الآن بعد أن عبرت بطائرة أسقطتني في أرض لاتمت لي بصلة ، لا أمت لها بصلة ، قد تكتشفها تلك المجسات ولكنها ليست حجة لإدانتي …
– نعم أنا عربي ، ولكنني لست إرهابياً !!
أنت يامن تجس الآن مفاصل التاريخ في جسدي ، هل تسمع آهات الذين بنوا بعرقهم مدناً لانزال ننبش بأظافرنا عنها ؟!
هل تسمع هدير بلادي في عروقي ؟! هل تسمع صفير الشتاءات القاسية التي عاشها أجدادي ؟! هل تسمع أنينهم في القبور التي ملأت الفضاء المتاخم لمحيط المدن ؟!
سأعبر الآن البوابة وسأصطحبك معي يا أيها المزروع في تلافيف دماغه فكرة الإرهاب عني .. سأصطحبك إلى بيت ماثل دائماً أمام عينيك وأمام عيون العالم كله .. ماثل بطلّته البيضاء التي تخفي سواداً يتراكم كل يوم على جدرانه … أي بيت أبيض هذا الذي تسمونه وتسممون من خلال قراراته عالمنا ؟!
انظر إليه وانبش في حديقة الورد التي تحيط به ترَ آثاراً ورمماً بشرية لأهالي مدينة هندية حمراء .. هذه الآثار لن تجدها تحت هذه الحديقة وحسب بل تجدها تحت مدينتكم كلها ، هل أقول لك كيف تم اكتشاف هذه الآثار :
(في حفريات عام 1975 عندما كانت تكنولوجيا الحداثة تحفر مسبحاً داخل حديقة البيت الأبيض للترفيه عن سيد القصر ، وجد علماء الآثار ماوصفوه يومها بأنه ” آثار ورمم بشرية تعود إلى مدينة نكن شتنكه وشعب كونوي ” وسرعان ما انعقدت الألسنة الطويلة وصودرت الأشباح وأهيل التراب على جثة الفضيحة وامتد بساط الأعشاب من جديد فوق مقبرة ” المجاهل ” المعروفة باسم ” حديقة الورد “) .
هل عرفت إذن ماذا تخبئ في بطونها حدائق الورد لديكم ؟!
من الإرهابي إذن ؟!
هذه الشوارع التي تمتد تحت قدميك ، قد لايخطر على بالك أنها تحوي أنقاض مدن وقرى هندية مدمرة ومغمسة بدم شعبها ، فأية حضارة تلك التي بناها أسلافكم فوق مدن تختالون أنتم اليوم على رفات عبادها ؟!.
لن أتحدث لك عن تاريخ مدينة قد لاتعرفه ، ولن أذهب إلى أزمنة سحيقة ، سأعود بك إلى زمن قريب ، إلى زمن عراق استبحتم أجزاءه ، هل كنتم تزرعون مدنه حدائق للورد ؟! أي شرق تريدونه عابقاً برائحة الورد الملون بالدم والخراب؟!
ما الذي أتى بي إلى هنا ؟ ألأحصد حفنة من دولارات أشتري فيها سكناً لي في وطني ؟ صحيح أن الراتب الذي كنت أتقاضاه لايكفي ثمناً لأفراحي وأتراحي ، أنا أستاذ الجامعة الذي قضيت ردحاً من الزمن في تحصيل العلوم والمعارف .. لكنني لا أستطيع الخروج من عباءة الوطن ..
صحيح أنهم سدوا النوافذ في وجهي كي لا أتنفس جيداً .. لكن الهواء هنا يخنق أنفاسي ، تجثم رائحة الدم فوق صدري فأشعر بالغثيان … صحيح أن المواطن في بلدي يقضي عمره طولاً وعرضاً لاهثاً وراء لقمة عيشه ، لكنني هنا أقضي الساعات حنيناً إلى تراب الوطن ، أي مرض هذا الذي يجتاحنا في أزمنة الغربة؟!
صحيح أن لا قيمة للوقت في وطني ، لكنني أشعر بوطأة الزمن هنا ، الزمن الذي يحفر في جسدي فيحيل مساماته إلى حفر وأخاديد …
كيف الأحوال يا أمي ؟ هل مازلت تحتضنين صورتي ؟! كيف حال أبي وأخوتي ؟ هل لايزالون يتذكرون طفولتنا التي قضيناها تحت خط الفقر ؟!
مازال الخط مرسوماً في ذاكرتي ، أود أن أمحوه يا أمي ، لكن أصواتكم ترن في مسمعي ، فلا أنام جيداً ، أسمع أحاديثنا ، ضحكاتنا ، مشاجراتنا ، جنوننا ، وأحن إلى أزمان مضت هناك في وطني .
أتذكّر لحظة وداعكم وتلويحكم لي بأياديكم التي بقيت صورتها موشومة في خيالي ، أتذكّر دموعكم التي جعلتني أفكر في العدول عن فكرة السفر .. لكنه الخط يا أمي لابد من محوه …
– أنت يامن تجس التاريخ في أجزائي ، هل سمعت أنين الوطن في مفاصلي ؟
نعم أنا عربي ، والإرهاب مزروع في خلاياكم فلا تبحثون عنه في خلايانا ، الإرهاب يعيش معكم، بينكم ، فلا تبحثون عنه في مدن السلام ..
ما الذي جاء بي إلى هنا ؟ هل جئت لأعبر بوابات أحلام ، ثم لأدخل بوابات حزن وألم وخوف ..
هل جئت لأبحث عن زمن ضيعته في وطني .. ما الذي سأجنيه من الغربة ؟ خوفاً أم عذاباً أم وحدة قاتلة فسراباً لايعيدني إلى جذوري ؟!
لاتلمسني أيها الباحث عن وهم يقتلك ، لاتقرّب هذا المجس من دمي ، لن تسمع أصوات الشهداء الذين رووا بدمائهم تراب وطني ، هات هذا المجس لأقربه من جسدكَ ، اسمع أزيز رصاصكم ؟! انصت إلى صوت الدمار الذي زرعتموه في بيوت وطني ، إلى أنين الشعوب الذي مازال يدوي في أعماقكم ؟! ..
– من الإرهابي إذن ؟!
دعني سأعود ، فبلادكم لا تسعني ، أموالكم لا
تسد جوعي ، حضارتكم الزائفة تصيبني بالدوار، بالموت .. أساطيركم المشبوهة التي أُسستم عليها تخنق الحياة في هذا الكون !!
دعني سأعود ، إن أصوات الشهداء في وطني تناديني ، أصوات الأطفال الذين مزقتم أجسادهم تناديني … كيف أدخل بواباتكم ؟ وبوابات القبور لا تزالون تسدون منافذها بأكوام الجثث في وطني … كيف أدخل بواباتكم ؟ وبوابات الدول في وطني مفتوحة للنازحين واللاجئين ؟!..
دعني سأعود لأدخل النهار من أبوابه الفسيحة ..
إن الشمس دائماً تشرق من بلادي ، ودائماً تغرب في بلادكم !!! …