وشكلت معارك الجرود اللبنانية السورية محطة مهمة ومفصلية في مسار مواجهة المشروع في المنطقة. ويمكن لأي مراقب أن يتحدث، بعد مرور ستة أعوام، عن عدد من الإنجازات التي حققتها المقاومة اللبنانية، الأمر الذي ترك أثراً في لبنان، كما في الإقليم بأكمله. وأبرز هذه الإنجازات:
أولاً: أفشلت المقاومة محاولة ضرب النموذج اللبناني المتنوع، في طبيعته وتركيبته، طائفياً ومذهبياً، والذي يشكل النموذج النقيض للمشروع التكفيري، كما للمشروع الصهيوني. فلبنان، الذي أعلنه البابا بولس الثاني وطن رسالة، صمد وقاوم ونجح في منع تكرار تجارب إبادات جماعية أو تغييرات ديمغرافية، كالتي تسبّب بها المشروع نفسه في سوريا والعراق، اللذين شهدا سيناريوهات مرعبة، شملت عمليات تهجير ومجازر طائفية، في ظل حالة هيجان طائفي وإثني، عمّت كل المنطقة.
ثانياً: ساهم التحرير الثاني للأراضي اللبنانية في عودة فلسطين قضيةً مركزية للأمة. لا يمكن إلا أن نربط بين هذا الإنجاز وما يحدث في الضفة الغربية من مقاومة متصاعدة ضمن حالة من الانسجام والتناغم الكبير بين دول محور المقاومة وفصائلها، بالإضافة إلى التأييد والتعاطف الكبيرين من أغلبية الرأي العام، إسلامياً وعربياً. هذه الحالة ما كانت لتحدث لو نجح المشروع في جعل لبنان بؤرة لإرهابه وقاعدة جغرافية صلبة له. إن القضاء على المشروع وعزله واقصاءه حمت المقاومة في لبنان من الدخول في صراع استنزافي وجودي، وحالت دون حرفها عن هدفها الأساسي المتعلق بالصراع مع العدو الإسرائيلي.
ثالثاً: استطاعت المقاومة تحويل التهديد إلى فرصة. فعلى الرغم من اضطرارها إلى استخدام جزء من قدراتها في الحرب ضد التكفيريين، فإن هذه التجربة شكلت مناسبة اختبرت فيها القتال في بيئات صعبة وقاسية في وجه عدو شرس، وهو ما شكّل مصدر قلق وخشية لدى العدو الإسرائيلي. وبالتوازي، استطاعت المقاومة، بسرعة وحكمة وتصميم، مواصلة مسار تعاظم قدراتها وصولاً إلى تحولها إلى خطر استراتيجي يتمّ رفعه في بعض الأحيان إلى مستوى الخطر الوجودي ضد “إسرائيل”.
رابعاً: سجّل لبنان سابقة تتمثل بكونه البلد الوحيد في منطقة غربي آسيا، الذي استطاع مواجهة المشروع التكفيري وتحرير أراضيه من دون مساعدة من أحد. وراهن كثيرون على أن الخلاص لن يأتي إلاّ عبر التدخل الخارجي، لكنّ العمليات العسكرية، التي حدثت، وتُوِّجت بالتكامل بين الجيش والمقاومة، استطاعت أن تحقق الهدف من دون أي تدخل.
انعكس هذا الأمر مناعة لبنانية على المستوى الأمني، ولا يزال لبنان، بعد مرور ستة أعوام، ينعم بالاستقرار الأمني المقبول، على الرغم من أوضاعه السياسية والاقتصادية غير المستقرة.
خامساً: قدمت المقاومة، من خلال قتالها النظيف، الوجه الحقيقي لأبناء المنطقة وثقافتهم. لقد دافع المقاومون عن كل الأطياف في لبنان من دون أي تمييز، وحرروا قرى مسيحية وشيعية وسنية، على حد سواء، كما تجنبت المقاومة أي أداء مستفز، الأمر الذي ساهم في تقديم صورة راقية وأخلاقية وإنسانية لحزب الله ومقاومته. ويبدو واضحاً حجم الانزعاج والقلق، اللذين تركتهما هذه التجربة الناصعة لدى أعداء المقاومة، الأمر الذي دفع إلى شن مزيد من الحروب الناعمة والإعلامية بهدف شيطنة المقاومين وتشويه صورتهم وتوجيه مختلف الاتهامات إليهم، ضمن بروباغندا ممنهجة، تُرجمت في حملات منظمة تتهم حزب الله بتجارة المخدرات، وتحمّله مسؤولية كثير من الموبقات.
سادساً: كما أدت حرب تموز إلى إفشال ولادة الشرق الأوسط الجديد، التي أعلنتها وزيرة الخارجية الأميركية حينها، كوندوليزا رايس، فإن التحرير الثاني وجه ضربة قاسية إلى النسخة الجديدة من هذا المشروع، الذي راهن على إمكان أن يحقق التكفيريون ما عجزت عن تحقيقه “إسرائيل”. وبالتالي، يمكن اعتبار هذا التحرير حلقة جديدة ضمن سلسلة انتصارات مشروع المقاومة في المنطقة في وجه المشروع الأميركي الإسرائيلي، الذي لم ولن يتوقف عن إنتاج نسخ جديدة عن حربه، بل سيزداد شراسة مع كل إنجاز، ما دام الصراع مستمرّاً.