محمود بري | كاتب وباحث لبناني
لم يعد ححححححح السكوت على الأمر وإبقاؤه “في البطن”. صار من الضروري بقّ البحصة بعد أن أوصلونا والبلد إلى المحطة الأخيرة قبل الارتطام الكبير… الارتطام التحطّمي الحقيقي هذه المرة.
المقصودون هم وبلا مواربة أولئك الرجال ذوي الأزياء الغرائبية المتكلِّفة التي يمكن اعتمادها لتكون تنكّرية… تيجانٌ من ذهب النهب الوحشي. لفائف من حرير الهند المُهرّب… وحناجر ببغاوات تقلّد ولا تقول. يتوهمون ذواتهم فوق الناس الذين مثل أمهاتهم، ويتصرّفون على أنهم سُفراء السموات على الأراضين، وحاملو توجيهات الجهات فوق الأرضية وفوق الكونية، ويتجاهلون، غالباً عن حُمقٍ ونكران، حقيقة أن واحدهم ليس أفضل من أيّ آخر من الدهماء، لا يمتاز ولا يتميّز بشيء، وأنه، وهنا رأس الحكمة: خرج من مخرج البول مرتين.
يريدون إكراهنا بالقوة االخفيّة التي لا يملكونها فعلاً، على الإنصياع لنوبات توهماتهم. يتطلّبون رضوخنا لمزاعم امتلاكهم، دون الخلق جميعاً، “باسوورد” بوّابات الجحيم، مع تراخيص تعمل على بصمة أعينهم وحدها أو شعر وجوههم، ولو كان حليقاً، وبأن بوسعهم سَوْق البلابل والعنادل وعصافير شبابيك الفجر إلى أقفاص الخيبة، وتمزيق زقزقاتهم في نيران الهلاك المُستدام.
هؤلاء بالذات، هم المرض الذي أفسد أعمارنا، والنحس الذي مسخ لبنان الرسالة من “سويسرا الشرق” حتى أمسى مبوَلة طوائفية… لخدمتهم.
يقف واحدهم ليقول ما ينبغي وما لا ينبغي علينا، نحن المواطن، أن نفعل؛ ما يجوز لنا وما لا يجوز؛ يُملي علينا شروطه على أنها مواعظ؛ يطوّقنا بتخرّصاته على أنها هدايا؛ يبتسم كالحرباء ويمثّل بهبوط دور العارف الأول والآمر الناهي، وأنّ من أصابعه تقطر الحكمة والهدى والرشد، ولا ينتبه أنه يستخدم لغة ماريكّا…
يُشير إلى الممسكين بزمام الأمور فيوجههم بكيفية ممارسة الحكم، ليضمن إبقاءهم خصيان في بلاط مشروعه لقيادة الغيم… كي يُمطر في جيبه. يرسم لهم خرائطهم للإدارة ومواقفهم للسياسة، ويبرمج لهم علاقات الدولة التي يركبون على حميرها ليضمن حمايتهم لبقائه في منهبته المكللة بمظاهر التعفف الدّجال. يتظاهر بأنه مخلوق من لحم ودم مشاعر بينما هو في الحقيقة مجبول من نار… كما كل شيطان.
لا يهمه لبنان الذي يتغزّل به كذباً… إلا بقدر ما يدرّه عليه. ومثلهم جميعاً، لا يشبع. خزائنه لا تمتلئ وعيونه تبقى فارغة. لا يني يُحاضر بالعفاف على مسامع السُذّج، وما أفصح المرأة العامة حين تحاضر ببنات الفضيلة؛ يبيع العميان شمعاً ويصيح عبر فضاءات الفتنة بالنور الذي في وجهه، فيُصدّقوه. ولا غرابة… ! فأنا أيضاً اصدّق أنه لا يكذب، وأعتقد أنه مؤمن فعلاً وتماماً، ليس بالله ولا بخدمة الخير والحق والجمال، بل بخدمة شيطان نفسه العامرة برذيلة الجشع وجريمة إزدراء الحياة. صريع أمراضه الشخصية ورغائبه الانفعالية، وأطماعه التي بلا سقف ولا قعر. يرى إلى أن يحققها، ولا يهمه لو على حساب الناس جميعاً، من رعيته ومن الآخرين، فالجميع عنده متاع…
رعا على امتداد يديه ولسانه خطوات الفتن المتجوِّلة ودسّمها بكلماته المدببة وسمومه المدسوسة في أبيض اللبن، وفاز بمباراة رمي البلد على حافة الحرب الأهلية من جديد. وحين دارت محركات الحقيقة أو كادت تدور، قام يدافع عن جرثومة الخراب وميكروب الإجرام الذي يوجهه ويحميه ويرعاه بنفسه… هكذا بصفاقة وتجبّر ومن دون أدنى حياء. وبعد أن اطمأنّ إلى “دخول السبت في جوف اليهودي”، خرج ليحدّثنا عن القانون والعدالة والإنصاف وضرورة متابعة التحقيقات وصولاً إلى المحاكمات وإصدار الأحكام بحق المرتكبين وإنزال العقوبات بهم… كأنما هو يتحدث إلى غنم مذبوح، لا يهشّ ولا “ينشّ”.
أما الأبشع والأكثر عاراً من هذا فهو نحن، يا لحظّنا العاثر… نحن وموقفنا. ونحن إثنان.
“نحن النحن” هم الجثث الناطقة، البليدون كحجارة في جدار منهار، قوم المزاعم والادعاءات الفارغة كعيون جُثّة، البلا كبرياء ولا كرامة ولا غضب، كالأحذية العتيقة المليئة باسوأ الحكايا.
أما “نحن ــ الأنتم” فآلهة الوقت الضائع؛ عُبّاد النكبات، مُشغِّلو القضايا الكُبرى؛ النائمون على أرصدتكم المنهوبة، وتفرضون علينا أن “نعترفون” أنها ليست سلباً ولا نهباً بل هي من أفضال الله وإرادته، وأنه حرام عليكم. حرام. حرام. حرام أن تتخلّوا ولو عن أيّ نذر يسير منها. ولا عن أيّ شيء غيرها… أبداً، لا لكم ولا للوطن ولا للقضية- القضايا التي ترقصون على حبالها… ولا حتى لترميم قبور أمهاتكم التي دمرتها مدافعكم… ودمّرت فينا الإنسان والحياة والصدق، وجعلت منّا قطعاناً من التردد والإتكالية، ورسمتكم في أذهاننا آلهة كذّابة في هذا المستشفى البائس للأمراض العقلية.
…ثم يطلبون منّا أن نرفع رؤوسنا، نحن القطعان البلا رؤوس.