الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية .
على الخطوط الأمامية للمعركة الكبرى في اليمن ، تستطيع أن تمسك برؤوس ذلك المثلث المتلاحم الأضلاع ، الذي يمثل المطارق الأمريكية الأساسية ، للقيام بالجراحات المطلوبة لإعادة تشكيل الجغرافيا الإستراتيجية للإقليم ، فلك أن تلاحظ – مثلا – صدور بيانين متزامنين كأنهما صدرا من فم واحد خلال الأيام السابقة ، الأول ، بيان من تنظيم داعش ، والثاني ، تعليق من المتحدث العسكري الإسرائيلي ، يمثل بيانا على سير العمليات في مأرب .
أما الأول ، فقد صدر تحت اسم دولة الخلافة الإسلامية – ولاية مأرب – بعد أن تم الدفع بقوات التنظيم جنبا إلى جنب مع قوات القاعدة والإخوان المسلمين ، وهو يتحدث عن تنفيذ عمليات هجومية على مواقع الحوثيين في منطقة الكسارة .
وأما الثاني ، فقد صدر تعليقا على لسان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ، يحذر من ( التقدم المتسارع في مأرب ) . لماذا ؟ لأن ( ما بعد مأرب إلا الجزيرة وما ورائها ) لماذا أيضا ؟ ( حتى لا تتكرر مأساتنا التي عانينا منها قبل 1340 عاما حين سقطت يثرب من أيدينا ومكة والجزيرة من أيديكم ) وكأن يثرب ما تزال في أيديهم وقد اندمجوا في الحرب على اليمن حتى لا تتكرر مأساة سقوطها ، لكن إجبار الذاكرة على صناعة حقوق تاريخية باطلة لا يتم في خط مستقيم يمتد مئات السنين إلى الوراء ، بغير أن يكون جزءا من خط مستقيم يمتد إلى الأمام ، فقبل يومين فقط من تصريح المتحدث العسكري الإسرائيلي عن سقوط يثرب ، أعلنت إسرائيل (15 فبراير 2021 ) عن تأسيس ( رابطة المجتمعات اليهودية الخليجية في دول الخليج الست ) وكان أول تصريح للمنظمة نفسها هو ( الالتزام بنمو وازدهار الحياة اليهودية في دول الخليج ) .
على خط ملتهب واحد تتجمع رؤوس هذا المثلث من داعش والقاعدة والإخوان المسلمين ، والسعودية والإمارات وقطر وتركيا على جانب واحد ( وللتدليل فقط فقد أنشأ إخوان تركيا وقطر في سبتمبر الماضي قاعدة عسكرية جوية مزودة بمنصات صاروخية في السلسلة الجبلية الرابطة بين محافظتي تعز ولحج ) ، إضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة التي عززت وجودها البحري في بحر العرب قبالة سواحل محافظة المهرة شرقي اليمن ، التي تتواجد بها قوة أمريكية وأخرى بريطانية .
وإذا كانت الإمارات بعد عملية نقل السلطة في أمريكا إلى الديمقراطيين ، قد أكدت أنها أنهت عملياتها العسكرية في اليمن منذ يونيو الماضي ، فالحقيقة أن وجودها العسكري مازال قائما وهجمات قواتها ماتزال مستمرة ، وهي ماتزال تمسك بأغلب الموانئ البحرية اليمنية ، سواء ( الشحر ) في حضرموت ، أو ( النشيمة ) في شبوة ، أو ( المخا ) الذي حولته وما حوله إلى قاعدة عسكرية ، إضافة إلى ميناء عدن الذي تم طمسه باعتباره البديل الطبيعي لموانئ جبال علي ، بينما وصف تقرير خبراء مجلس الأمن تواجدها مؤخرا بأنها ( تدعم كيانا يهدد الأمن والاستقرار والسلام ) .
لذلك عندما قلنا أن حلفاء الولايات المتحدة قد فشلوا في دفع الإستراتيجية الأمريكية إلى مداها المطلوب ، وأنهم على النقيض من ذلك قد ساعدوا في خلق حالة مركبة من إنضاج وتسمين مضادات قوية لهذه الإستراتيجية ، لم تكن إسرائيل ذاتها استثناءا من ذلك ، وإذا كانت الإشارة الأولى لدمج إسرائيل في معارك الإقليم قديمة ورمزية في حرب الخليج الأولى ، فمع استخدام القوات الأمريكية لقنابل إسرائيلية موجهة بالليزر ( هاف تاب ) كان جميع أفراد القوات الأمريكية يرتدون أحذية كُتب عليها ( صنع في إسرائيل ) فإن الإشارة التالية لدمج أمن إسرائيل وأمن الخليج في سلة واحدة ، تلى ذلك بسنوات ، فقاعدة ( السيدية ) في قطر التي تمركزت فيها الوحدة الجوية الاستكشافية 379 بوصفها خط الدفاع الأول ضد إيران ، تمتعت بوظيفة مزدوجة ، هي حماية دول لخليج وحماية إسرائيل في الوقت ذاته .
لكن التواجد الخليجي الإسرائيلي في غرف عمليات مشتركة بدأ في 2011 وترسخ في 2012 فقد أضيئت غرف هذه العمليات في قاعدة انجليرك بتركيا واربد بقاعدة الحسين الجوية في الأردن وغيرها ، أما الحديث عن أن صيغ التعاون العسكري بين الطرفين كان تاليا على أحداث ما أسمي الربيع العربي ، فليس صحيحا ، فأول مناورات تدريبية مشتركة بين سلاح الطيران السعودي والإسرائيلي تمت قبل بدأ هذه الأحداث بستة أشهر ، وتحديدا في أكبر قاعدة جوية أسبانية ، وعلى طائرات من طراز أف15 قبل أن تنتقل إلى إحدى القواعد الجوية الأمريكية .
أما حلقة التخطيط وتنظيم التعاون لخلق منظمة إرهابية بديلة للقاعدة ، فقد بدأت بعد عام واحد من ضرب العراق ، وقد تم الاجتماع التأسيسي لها في شمال شرق لندن في 19/2/2004 ، وشارك فيه مدير مخابرات تركيا وقطر والسعودية والإمارات وسفير البحرين في لندن إلى جانب مسئولين كبار من السي أي أيه – و إم أي 6 – والموساد ، ثم تكفلت السعودية مع بداية 2006 بإطلاق النطفة الأولى لتنظيم داعش داخل العراق ، قبل أن يتم تاليا توسيع حدوده ومد أطرافه دون دخول في التفاصيل .
لقد أصدر مجلس الأمن القومي الأمريكي ، وهو أعلى سلطة سياسية ودفاعية في الولايات المتحدة ، تقريره الإستراتيجي الأهم في ديسمبر 2013 تحت عنوان ( توجهات عالمية 2013-2030) وقد حمل التقرير على توقعين مقبضين ، الأول يخص الشرق الأوسط ، أقرب إلى أن يكون مرثية في النظام الإقليمي العربي ، الذي سيترك ساحة القيادة لثلاث دول غير عربية هي إسرائيل وتركيا وإيران .
والثاني يخص الولايات المتحدة الأمريكية ، أقرب بدوره أن يكون مرثية في قدرتها على قيادة النظام الدولي وبقائها منفردة فوق رأسه ، في ضوء ثلاثة سيناريوهات هي الأقرب إلى التحقق : توقف مسيرة العولمة ، أو انعزال الولايات المتحدة ، أو تحقق الأمرين السابقين معا .
وعندما صعدت النخبة التي يمثلها ترمب إلى موقع الرئاسة ، كان الأمر يبدو كأنه تعبير مباشر عن أن النبوءة الثانية لن تنتظر مزيدا من السنوات كي تكون قابلة للتحقق ، وهكذا كان تصور إدارة ترمب أن سحب أطراف الولايات المتحدة من الإقليم ، هو استنقاذ لأمريكا من الداخل ، لإعادة بناء الصناعة ، وأنه يشكل ضرورة لا بديل لها .
وهكذا جرت محاولة تهرئة ما تبقى من دفاعات الإقليم بتعميق الدور العسكري التركي في ليبيا ، وشمال سوريا ، وشمال العراق ، وبث الألغام والمتفجرات عبر المحاور الإستراتيجية لمصر ، وفي البحرين الأحمر والأبيض ، وفرض أقصى درجات الحصار على إيران ، لخنق مواقع ارتكازها في سوريا والعراق ولبنان ، وتصعيد الحرب على اليمن رأسيا وأفقيا ، بينما تُركت إسرائيل تعلن عن قوة وجودها بألعاب عسكرية وفق نمط ( المعركة بين الحروب ) مع تأكيد سيادتها وتوسيع عمقها الإستراتيجي بضم الجولان ومزيد من أراضي الضفة الغربية ، ثم جرت على عجل مراسم الإعلان عن ( سلام القوة ) بين إسرائيل وعدد من دول الخليج بينما كانت الدولة الخليجية الأكبر ، هي التي رصفت الطريق وأضاءت الممرات .
لقد كان الهدف الجوهري من وراء ذلك ، هو نقل مركز الدفاع عن الخليج ، من المحيط الهندي إلى إسرائيل ، ثم بالتبعية نقل إسرائيل إلى داخل مربع القيادة العسكرية الأمريكية المركزية في الشرق الأوسط .
غير أن ذلك ، إذا كان يمثل حلا لتغذية إسرائيل بالمال الخليجي ، لإنعاش وجودها ، فقد تبين أنه لن يمثل حلا لاستكمال عملية الإنقلاب الإستراتيجي في الإقليم ، فقد تبين أن وضع إسرائيل في هذا الإهاب كقوة كبرى أوسع كثيرا من بدنها وأضعف كثيرا من قدرتها .