قليل من الواقعية يا شيخ سعد ..

محمود بري | كاتب وباحث سياسي لبناني

بعد أن وصل بنا البلد والوضع إلى ما نعانيه مما هو غير مسبوق حتى في أسوأ أيام “النير العثماني”، صار من الضروري البحث عن سبلٍ مختلفة عمّا عرفناه وتابعناه ومشينا فيه مُكرهين بحكم تسلّط الأزمة وديكتاتورية الأوضاع. وهذا يتطلّب أولاً وأساساً اللعب بعيداً عن ألفباء السياسة الكيدية اللبنانية البائسة والتدميرية.
لنعترف بداية بأن دستورنا ليس مثالياً البتّة (كما نحبّ أن ندعي)، وأن العديد من نصوصه إمّا قاصرة أو ملغومة (بحيث يمكن الاستعانة بها سواء لحفر أساس البيت في الصخر، أو لتقويض البيت ولو كان قائماً على صخر). كذلك فالثغرات الكثيرة في متنه تجعله أشبه بمصفاة لا تفيد شيئاً، فلا هي تُصفّي الماء من شوائبه ولا تحفظه للاستخدام. لكن المشكلة الضاغطة اليوم ليست في نصوص الدستور (التي لا بد لها من حكومة لتعديلها) بل هي في تشكيل حكومة، وهنا بيت القصيد حيث ندخل مباشرة في خضم مواجهة ينطلق بها الرئيس المكلف على بغل الثأر في محاولاته المُستدامة لتعويم سلطانه في بيئته وتلميع إسمه خلف الحدود تجاه الربع الخالي. ولا يقتصر طموحه على كسر شوكة بعبدا فحسب بل يتطاول إلى محاولة كسر ظهر الظهير الأساس لرئيس الجمهورية المتمثل بـ”حزب الله”. وهنا تأخذ معركة الحريري بُعدها الاستراتيجي بما هي معركة أميركية – إسرائيلية (وبالتبعية سعودية) ضد المقاومة وسلاحها الذي بات الرقم الصعب في أي “شرق أوسط جديد” تحاوله واشنطن.
أول وأبرز أدوات المعركة التي يشنّها الحريري تتمثل بورقة أسماء الوزراء الـ 18 التي رفعها لرئيس الجمهورية، وأكثر من توصيفها بأنها تتضمن شخصيات اختصاصية ومحايدة، وبالتالي فهي بنظره التشكيلة الوحيدة المناسبة التي لا بديل عنها بوزرائها الـ 18، حتى أنه لم يقبل بمجرّد تعديل عدد وزرائها، ولا بالطبع أي إسم من الأسماء التي وردت فيها. وعلى امتداد زياراته الكثيرة لقصر الرئاسة في بعبدا، لم يتورّط الحريري في أي عملية بحث جاد في التشكيل، بل اكتفى بتكرار عرض واستعراض ورقته إياها والتأكيد على توصيف أصحاب الأسماء الواردة فيها بالاختصاصيين والمحايدين. وأمام محاولات رئيس الجمهورية الدخول في الأسماء، أكّد الحريري انه لن يقبل بأيّ تعديل، ثم انقلب يحاول إقناع الرئيس والرأي العام والشيعة والدروز والمسيحيين، بأنه هو نفسه الذي سمّى الوزراء جميعاً من دون استشارة أحد، ومارس “المَونة” على كل من السيد نصرالله والرئيس بري ومعهما الوزير السابق جنبلاط بهذا الشأن، وبالتالي فهو أيضاً سمّى الوزراء المسيحيين بما فيهم وزراء رئيس الجمهورية، ولا مكان ولا مجال للاعتراض (حسب أسلوب . (take it or leave it ثم، وبعد طول أخذ وردّ مع الرئيس عون على امتداد اللقاءات الـ17 التي سبقت لقاء القطيعة، تقبّل الحريري من الرئيس أن يُسمي وزيرين أو ثلاثة، شريطة ألّا يكون جبران باسيل واحداً منهم، وهو ما رفضه الرئيس مُصرّاً على شراكته الكاملة في التباحث بشأن الوزراء المقترحين جميعاً كما ينص الدستور، واختيار وزرائه كما فعل الشيعة والدروز.
كان من الطبيعي خلال الأيام الأولى بعد اللقاء القطيعة، أن ينقسم اللبنانيون (شأنهم دائماً)، وأولهم أهل السياسة، بين تأييد الرئيس من جهة والمكلّف من الجهة الأخرى. إلا أن مرور الأيام وإشباع اسماء الوزراء الذين سماهم الحريري في ورقته العقدة، كشف ورقة التوت عن التشكيلة (المكونة حسب الحريري من اختصاصيين ومحايدين)، فإذا بها حكومة لون حريري واحد… وغير محايدين بالمرة، ومنهم من كان من ضمن فريق الرئيس الأسبق للحكومة فؤاد سنيورة، ومنهم كذلك من هو محسوب جهاراً نهاراً على هذا وذاك من الزعامات التي تقف في المعسكر المناهض للرئيس عون. وإذا أُضيف إلى هذا إضاعة التخصصات بالتسميات، حيث أن الطبيب لوزارة غير الصحة والزراعة لوزير للخارجية…
هكذا تكون انكشفت الخدعة البائسة التي حاولها الحريري من دون أن يُوفق بتمريرها، وتهاوت مراهناته العشوائية على سذاجة أخصامه الداخليين كما على مناصريه الخارجيين، فبدا أمام الجميع عارياً.. حتى من ورقة التوت، والطقس برد وصقيع كما هو واضح.
والمخرج الوحيد الممكن لأزمته ليس غير قليل من الواقعية والصدق واحترام النفس بدلاً عن “البَهورة” والمغامرة بما تبقّى.
فأزمة التشكيل التي اخترعها الحريري ويواصل تسعيرها لبلوغ أهداف أخرى، أولها استعادة الحظوة في الخليج، لا يمكن حلّها من خلال التسريبات الكيدية ولا الظهور بثوب الخادم الأمين للأهداف الأميركية. وتمديد أزمة التشكيل لن يفيده في رحلة تعرية الرئاسة الأولى مما تبقى لها من صلاحيات يكفلها الدستور، ولا يشكّل ضغطاً على رئيس البلاد، بقدر ما يضغط على ناس البلاد المحاصرين بين مطرقة الحريري وسندان أوهامه. ولعل السقوط المُدوّي الذي ينتظره لن يكون سقوطاً له بمفرده، بل لا بل من الطبيعي أن يُلحق اضراراً لا بد منها في الأجساد السياسية لمُشغِّليه الداخليين ضمن المنظومة السياسية الراهنة.
لقد أجاد الحريري ببناء جدران الشك لتفصله عن جعجع، ثم عن جنبلاط، ولم يعد بإمكانه التقاط الأفاعي بيدي غيره. لذلك ليس أمامه وهؤلاء سوى الواقعية.. حبل إنقاذ.

Exit mobile version