الدكتور حسن احمد حسن | باحث سوري مختص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية
(القسم الأول ١ -٣)
عندما تأتزر السياسة لبوس الأدب الإبداعي يحلق كل منهما بجناحي النبض المدوزن والأمل، وكلاهما عصي على المصادرة والحصر، فالنور لا يقبض عليه براحة الكف، والضوء يبقى مشعشعاً رغم إغماض عيون من لا يستطيع تحمل وهج الشعشعانية المتقدة ذاتياً، وهنا تتبلور مسؤولية النخب الثقافية، وبخاصة التي نذرت نفسها لنقل نبض الوطن بنقائه وصفائه وحقيقته الحاملة مقومات الهوية والانتماء إلى العالم أجمع، وإذا كان هناك من يصر على الاستمرار بإغماض العينين فيجب قتحهما قسراً، وحشر الحقيقة في البؤبؤ حشراً، وإن علت الأصوات النشاز التي تعتبر الحقيقة ملحاً يكوي العيون، فلتكن كلماتنا الملح الذي يدمي أماقي وقلوب وأرواح من امتهنوا تزييف الحقائق، وتضليل الرأي العام، ودس السم في العسل، ويمكن لأولئك وأتباعهم أن يعودوا لإغماض عيونهم ما شاؤوا، وحسبنا نحن عشاق سورية الأسد أننا أسكنا الحقائق في شبكات الرؤية عندهم رغم أنوفهم، وصوت تلك الحقائق غدا عالياً يسمع حتى من في آذانهم وقر وصمم، ويتناول المعاني المعبرة عن حقيقة ما جرى في سورية في موسم الجنى، وتكدس الغلال في بيادر الإنجازات السورية المنتشرة في جميع المحافظات، بل وخارج الجغرافيا السورية على المستويين الإقليمي والدولي، وقد غدت حقيقة تقض مضاجع أصحاب مشروع التشظية والتفتيت الذي تحطم رأسه القاطر على صخرة الصمود السورية المتجلية في أبهى صورها، وأروع معانيها في الكلمة المتلفزة للسيد الرئيس بشار الأسد التي وجهها إلى الشعب السوري بعد إعلان نتائج الانتخابات، وفوز سيادته بولاية دستورية جديدة وبنسبة 95,1% من مجموع أصوات الناخبين التي تجاوزت بدورها 78% من عدد المواطنين الذين يحق لهم الانتخاب، وهذه هي الصفعة الأشد التي وجهها الشعب السوري إلى أطراف المحور المعادي قادة وتابعين وأدوات تنفيذية مأجورة ورخيصة تنتظر بتوجس وريبة اللحظة التي يقذف فيها مشغلها من عربته عند أول منعطف بعد أن انتهت صلاحية استخدامها، وغدت عقيمة، لا بل عبئاً وحملاً زائداً في عربات القطار الصهيو أمريكي المتعثر بعد تحطم العديد من العربات، وخروجها عن السكة بفعل النهج المقاوم الذي تشغل سورية الأسد واسطة عقده الفريد.
كثيرة هي الأفكار والمعاني والدلالات والرسائل التي تضمنتها كلمة السيد الرئيس بشار الأسد التي وجهها إلى أبناء الشعب السوري الذي قال كلمته بوضوح وجلاء، ويمكن باختصار شديد ذكر أهم النقاط بما يلي:
• العلاقة بين القائد وأبناء الشعب: عندما يخاطب السيد الرئيس جميع المواطنين بقوله: (إخوتي بالولاء والانتماء)، فهذا يعني الكثير، واستخدام ياء المتكلم المضافة إلى لفظ أخوة يعني علاقة الأصل بالأصل، وهذا يتضمن أن المصالح مشتركة، وكذلك الآمال والآلام، والفرص والتحديات، فالعدو واحد، والأخطار والتهديدات تواجه الجميع دونما استثناء، كما أن الخير والأمن والأمان والتطور وما شابه ذلك ينعكس على الجميع لأنه يعبر عن جهد جماعي ومردود مجتمعي لا يستطيع الأفراد بلوغه مهما علا شأنهم، ومهما امتلكوا من مهارات وقدرات، فزيادة قوة الدولة بأبنائها، وخير الدولة يجب أن يعم على الجميع أيضا، أي أخوة في السراء والضراء، وهذه العلاقة الحميمية بين القائد وأبناء الشعب لا يمكن أن تتبلور بين عشية وضحاها، بل هي ثمرة كفاح طويل، وعيش مشترك كان فيه السيد الرئيس مع أبناء الشعب في كل الميادين… كان مع ذوي الشهداء والجرحى يعتز بهم، ويبلسم ما أمكن من جراحاتهم… يستمع إليهم وإلى طلباتهم ويعمل على تأمين كل ما من شأنه تخفيف وطأة الفراق والمعاناة عن كاهلهم… كان مع الفلاحين في أراضيهم وحقولهم يتشارك معهم زرع الأشجار والأمل واليقين بأن كل ما أحرقه الإرهاب وداعميه، والخونة وأسيادهم سيعود أكثر خضرة ونضرة… كان مع العمال في أماكن العمل والإنتاج، ومع المقاتلين في خطوط التماس الأولى يشاركهم طعامهم وجلستهم حيث هم بكل ما يفرزه الميدان من أخطار وتهديدات…صافح المقاتلين على الطلاقيات المفتوحة على جحافل الإرهاب المسلح التي لا تبعد إلا أمتار قليلة، واطمأن على الجميع وطمأنهم أن المستقبل لنا رغم الجراحات النازفة، وإننا الأقوى بإيماننا وقناعاتنا وإرادتنا السورية الحرة المستقلة… تعامل مع أبنائه كبقية المواطنين السوريين فلم يرسلهم إلى أي مكان أكثر أمنا حتى عندما كانت القذائف تنهال على دمشق وسكانها، فكان وأسرته الكريمة كبقية أبناء سورية الصامدين المتجذرين بثرى الوطن الطهور…كان مع المرضى في المشافي ومع المواطنين العاديين في فعالياتهم وفي تجمعاتهم السكنية بعفوية ويقين أنه ابن هذا الشعب الوفي النقي الأبي الذي بادل السيد الرئيس الحب بالحب والوفاء بالوفاء، وهذا يفسر زحف الملايين إلى صناديق الاقتراع، فهؤلاء أخوة بكل ما يعنيه مصطلح “الأخوة”، وإذا كان السيد الرئيس ينطلق من هذه الرؤية الواضحة والدقيقة، فالأمر الطبيعي أن يلتزم به بقية المسؤولين جميعاً دونما استثناء، وأن يسارعوا إلى تمثل قيم السيد الرئيس وأخلاقياته في تواصله مع جميع أبناء المجتمع السوري، فالمنصب الحكومي، والوظيفة الرسمية ليست امتيازاً بل تكليف لتنفيذ مهام محددة، والمهمة الأسمى هي تقديم الخدمات للمواطنين، كل من موقعه، ومحيط مسؤولياته، وقد حدد السيد الرئيس في كلمته أنه من ضمن مهام مقام الرئاسة خدمة الشعب عندما قال: “..إن اختيار الشعبِ لي لأقوم بخدمته في الفترة الدستورية القادمة هو شرف عظيم لا يرقى إليه سوى شرف الانتماء لهذا الشعب، ليس بالهوية فقط، وإنما بالتطلعاتِ والأفكار والقيمِ والعادات”… إذن نحن أمام معطى جديد، فالانتماء لا يكون كاملاً إذا كان بالهوية فقط، بل لابد وأن يكون بالتطلعات أي بالآمال والطموحات، وطبيعة المستقبل المنشود ممن يجمعهم شرف الانتماء، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأفكار والقيم والعادات أي الموروث الثقافي والحضاري، وطريقة التفكير التي تحدد طرائق السلوك، وعندما نقول الأفكار والقناعات يعني تلقائياً رفض التبعية والدوران في فلك الآخرين، ويعني الحرص على الوطن ورموزه، كما يعني التخطيط العلمي المسبق الذي يستبق الغد، ولا يجري للحاق به، بل يرصد الواقع القائم بعوامل قوته وضعفه، ويحدد الهدف المطلوب بلوغه، وما هي التكلفة والمردوية، ومن ثم يفرز الخيارات المتاحة ويقدمها عبر مفاصل صنع القرار إلى أن تكتمل دورة اتخاذ القرار ببصمة وطنية، وجهود أخوية مشتركة ومصممة على تحصين الانتصارات العسكرية بإنجاز سياسي تبلور في تنفيذ انتخابات رئاسية أصابت رؤوس المحور المعادي بالدوار واليأس والقنوط.
• الأخوة في “الولاء والانتماء”: عندما يستخدم السيد الرئيس عبارة” أخوتي بالولاء والانتماء” فهذا يعني أن جميع أبناء الوطن أخوة من حيث المبدأ، وحتى يرتقي الولاء بالعلاقة إلى مستوى الأخوة يجب أن يكون للوطن حصراً بقدسيته وشمولية معانيه، وليس للخارج كائناً من يكون ذاك الخارج، كما أنه ليس لانتماءات ضيقة تمسخ معاني الدولة الوطنية، وعندما يكون الولاء للوطن والانتماء إليه تذوب في هذه القناة الجامعة بقية الروافد الداخلية المتماهية مع الوطن، لا المتناقضة مع جوهره وعزته وسيادته، فجميع الأعراق والطوائف والإثنيات والعشائر والقبائل والعائلات إنما تصبح أكثر أبهة بالانضواء تحت سقف الوطن، والافتخار بالانتماء إليه لا إلى أي مسمى آخر، والوطن هو الخيمة التي تظلل الجميع، والملجأ الحصين والآمن لكل أبناء الشعب، كما أنه الحضن الدافئ الذي ينشر دفأه على الجميع، وطالما ذلك كذلك فمن البدهي أن الدفاع عن عزة الوطن وسيادته وكرامته والحفاظ على وحدته أرضاً وشعباً هي مسؤولية الجميع أيضاً.
• الوطنية وتعدد الاستحقاقات: الانتخابات الرئاسية استحقاق دستوري، والاستحقاقات الدستورية بكليتها جزء من الاستحقاقات الوطنية التي قد تأخذ أشكالاً متعددة، فقد يكون الاستحقاق الوطني بحمل السلاح والدفاع عن أمن الوطن والمواطنين، وقد يكون حمل سلاح الكلمة والدفاع عن الوطن في المنابر الإعلامية، والتصدي لكل أشكال الحرب على الوعي، كما أن تنفيذ الواجب بالعمل كل من حيث قدرته واختصاصه وفي شتى ميادين الحياة هو استحقاق وطني شأنه شأن الاستحقاق الدستوري ومن ضمنه الانتخابات نيابية كانت أم رئاسية، والقاسم المشترك بين جميع هذه الاستحقاقات هي الوطنية وما تتضمنه من قول وفعل، وفي مقدمة ذلك تعريف الوطنية التي كانت في صلب رسائل السوريين للعالم أجمع، وقد أبدع السوريون في إيصال مفهومهم الخاص للوطنية، وشرحوا مضمونها بكل وضوح وشفافية، وحسب الواقع المتشكل في كل جولة من جولات الصراع والمواجهة.
إن الفهم الصحيح للوطنية وفق ما قدمه السوريون استدعى تلقائياً إعادة تعريف الخيانة، فبالوطنية الصحيحة أعاد السوريون المفهوم الحقيقي للثورة، وجددوا ألقها وأهميتها بعيداً عن التسويق المشوه لهذا المصطلح باستخدام بعض الثيران الهائجة ممن أطلقوا عليهم زوراً وبهتانا تسمية “ثوار” وهم أبعد ما يكونون عن ذلك، فمن يهلل لتدمير منشآت وطنه لا يمكن أن يكون ثائراً، ومن يرضى أن يكون تابعاً ومرؤوساً لدى من ينشرون القتل والخراب في وطنه لا يصح وصفه ـ وإن كان يحمل جواز سفر سوري ـ إلا بالخائن المشترى الذي باع الوطن والهوية والانتماء والحاضر والمستقبل بحفنة من الدولارت، وغدا كالريبوت المتحكم به بالريموت كونترول عن بعد وتحريكه وفق مشيئة من جاء لتدمير الوطن والرقص على جثته، فجاءت الثورة الفعلية والمعبرة عن رفض الواقع المراد فرضه على السوريين بخروج الحشود المليونية ونزولها إلى الساحات والشوارع، وانتشارها في كل ركن وزاوية من الوطن مؤكدة تصميمها على التصدي ومواجهة كل الأخطار والتحديات والتهديدات فكانت الثورة الفعلية ضد الإرهاب بمختلف أشكاله ومسمياتها، وضد الخيانة بكل صنوفها وأنواعها وألوانها البراقة منها والداكنة، فكل من هلل لأي قطرة دم سورية سفكت لا علاقة له بالوطنية، ولا يمكنه مغادرة خانة الخيانة التي تجمعه وغيره من الخونة مع أعداء الوطن وأعداء الشعب السوري.
يتبع