[ في ( الهويّة ) مرّة أخرى .. و تحديداً في إطار ( فلسفة السّياسة ) ]
[ ( الهويّة ) مجموعة من ( الهويّات ) و الخلافات و الاختلافات ، و الاستمراريّات ]
( الحلقة الأولى ” 1 من 3 ” )
● اللواء الدكتور بهجت سليمان .
1▪︎ يُمكن دائماً أن لا ينتهي القول على “ الظّاهرة ” العامّة ، الثّقافيّة أو السّياسيّة ، بقدر ما أنّها متعلّقة بحقائق و آراء و ظنون تجتمع كلّها في تكوّن و تكوين “ الظّاهرة ” يمتنع عليها منطق التّسلسل و الاختيار و التّكرار في حيازتها لشرط “ الخوارزميّة المنطقيّة ” ، فتفقد مع هذا انتظامها و تنظيمها الكفيل بالواقعيّة و الموضوعيّة و التّعميم و البعد النّظريّ و العمليّ الكفيل بصنع “ اليقين ”.
و “ الهويّة ” هي من أهمّ الظّاهرات التّاريخيّة التي لا يُعرف لها اتّفاقٌ وضعيّ أو تواضع اتّفاقيّ حدّد لها حيّزها القابل للجدل ، و ذلك بقدر ما أنّها في الوقت نفسه لا يُمكن أن تخضع للإنكار الثّقافيّ البشريّ ، سواء كان هذا من “ المقول” أو من “ غير المقول ” ، في حين أنّها لا يُمكن إنكارها و لا بمطلق حال من الأحوال للفرد أو للجماعة أو للشّعب أو للأمّة و الدّولة السّياسيّة ، من دون وجوب تطابق مفهومها الوصفيّ ( المحموليّ ) في الأحوال و الأوضاع التي قلناها للتّوّ ، على اعتبار أنّ مفهومها هو نفسه شديد التّركيب و التّعقيد و الغموض ، مع أنّها حقيقة شديدة الموضوغيّة كما سنرى بعد قليل.
2▪︎ و في أحاديث انطباعيّة “عامّة” تتعلّق بالشّأن العامّ على التّحديد ( ثقافيّة و سياسيّة ، أو غير ذلك ) لا يُمكن إدراك الفكرة المتكوّنة على حقيقة ما أو الواصلة فعلاً إلى حيّز النّضوج ، ناهيك عن ضرورة أهمّيّة حرمة أو تحريميّة الابتكار المتكرّر لأسس المسؤوليّة ، تحريميّة معرفيّة ؛ و لا يهم بالتّالي بعد ذلك أن يتقدّم أيٌّ كان بإعادات استنسابيّة ذاتيّة لأسباب معيّنة و بدوافع محدّدة بعضها مفهوم بالمطلق و بعضها مجهول و غامض ، على عادة كلّ الدّاوفع و الخلفيّات ، حيث لا يخضع هذا “ الاستنساب ” الفرديّ لأيّة حجج معرفيّة ، و لن يتجاوز لذلك حدود صاحبه.
3▪︎ و الانطباع ، على هذه الحالة ، قد.. يُشوّه صورة الحقيقة و مضمون الإدراك و الواجب في الخضوع إلى موضوعيّة الفكرة أو الأفكار ، غير أنّه ، و بالتّأكيد ، و مهما كانَ نتيجة حدس نبيه ، هو جزء أو نسبة معيّنة في حدودها القاصرة عن قول ما ينبغي أن يُقال أو ما هو ضروريّ في مناسبته أن يُقال.
4▪︎ ينطبق ما تقدّم ، على الانطباع ، أكثر ، على مواضيع الاهتمامات الجمعيّة غير المحدودة بذات أو بذوات ، و يُلغي عندها ، و أعني في طبيعته الوضعيّة الجمعيّة ، بنفسه ، كانطباع ، جميع ما يُمكن أن يحتويه على إيجابيّات الحدس إذ يتحوّل إلى انفعال عاطفيّ دون أن يتمكّن من تعميم قصوره و جزئيّة احتمالات قربه من الواقع الموضوعيّ للأشياء ، إلى شروط توسّعه كتعليم يعمّ استغراقه مادّته للآخرين .
هكذا ينغلق الحدس الذي يطمح إلى أن يكون حكماً اجتماعيّاً و ثقافيّاً ، و بالأحرى سياسيّاً ، على مفارقة الخلاف في معرض الاختلاف!
5▪︎ من المضامين التي تنتسب إلى هذا التّوصيف ما هو متعلّق بالبعد المعقّد و المركّب للظّاهرة التّاريخيّة بالذّات و على الحصر ، من جهة عدم معاصرة الوعي الحدسيّ نفسه لمراحل و مقاطع تكوّن هذه الظّاهرة ، على حين يمكن من أجل ذلك ، و فقط ، اللجوء إلى طرائق مختلفة تماماً – كما أنّ هذا من الواجب أيضاً تبعاً لمتعلّقات الظّاهرة التّاريخيّة – من الأحكام التي تتقبّلها الظّاهرة نفسها بحيث لا تُصاب الظّاهرة بحساسيّات الوعي الفرديّ الانفعاليّة التي صادف و عبّرتْ على ذاتها بشكل “ يقينيّ ” ولكن ينقصه الدّليل.
6▪︎ و شأن “ الهويّة ” في ما تقدّم كوصف جوهريّ و عام لفئة أو جماعة من النّاس ، يكتسي أهمّيّته على مثيل كلّ شأن يمسّ الأهداف و الطّموحات و الآمال على مختلف مضامينها المتعلّقة بحياة و تطوّر الأفراد و الجماعات و الشّعوب ، برافعة اكتشاف الثّابت فيها و المتغيّر بنسبيّات كلّ منهما و أهميّتهما في تثبيت أو نسف “ المفهوم ” بالذّات.
وقد تناولنا مراراً موضوع “ الهويّة ” أو موضوعات تتّصل بها بلغة ثقافيّة و سياسيّة و تاريخيّة ، و لهذا فإنّنا هنا ننوّع على لغتنا السّابقة فيأخذنا الحديث على “ الهويّة ” في اتّجاهات اللغة الفلسفيّة و “ الفلسفيّة السّياسيّة ” على التّحديد ، مع كلّ ما تستغرقه هذه اللغة من عناصر اللغات الأخرى ، الثّقافيّة و التّاريخيّة و الفرديّة و الاجتماعيّة و السّياسيّة بشيء من اللاتكافؤ بينهما ، و هو ما يفرضه بالطّبيعة سبيل الإضافة و الإعادة و التّذكير.
7▪︎ قلنا سابقاً و نؤكد مجددا أنّ مفهوم “ الهُويّة ” هو مفهوم تاريخيّ معقّد و مركّب و متداخل في مدّ و جزر و متعلّق بظروف جدليّة و لو أنّها ثابتة ، تقليديّاً ، أو هكذا يجب أن تكون . و يعود الأمر في تعقيده إلى أنّ هذا ” المفهوم ” نفسه ذات دلالات و إشكاليّات بالغة التّعدّد و الثّقافة و التّعميم ، إضافة إلى ما سنزيد عليه الآن من أنّه أيضاً “ مفهوم ” شديد التّفرّد كما سيظهر معنا في السّياق.
8▪︎ مفهوم للجميع كيف أنّ “ الحرب السّوريّة ” ساقت الثّقافة و الاجتماع و الأخلاق معاً إلى إعادة نقد “ المسلّمات ” و “ البديهيّات ” ، حتّى أنّها كثيراً ما أدت بالكثيرين إلى “ مفاهيم التّأسيس ” نفسها التي تقف وراء المشروع الوطنيّ السّوريّ بالجملة و المشروع القوميّ العربيّ بعمومه ، و إنّ لهذا حتماً ما يُبرّره .
فعندما يبرز أو يكبر أو يتصاعد تهديد “ المقوّمات ” بعمومها ، و من دون ضرورة هنا إلى التّحديد ، فإنّه بالقدر نفسه تُستعاد التّواضعات و البديهيّات و الأعراف ، و ربّما غيرها أيضاً كالأخلاق ، لتوضع من جديد على طاولة “ البحث ” و الجدل ، و هذا بقدر ما أنّ “ الوقائع ” نفسها قد فرضت هذه التّردّدات ، و قد تضمّنت هذه الوقائع إعادة و استعادة “ الأشكلة ” المعرفيّة ، و بحجم ما قد جرى من حماقات و سخافات ، في إطار “ الحرب ” ، و كذلك بقدر ما قد كان من تضحيات.
9▪︎ و قلنا سابقاً و سنعيد أنّ “ الحرب ” فضحت الكثير من مقوّمات و مادّة الوطن نفسه و بنيته التّاريخيّة على التّحديد ، و هو ما يتّصل بطبيعة الحال بالبنية الاجتماعيّة المعاصرة و هشاشات ثقافات الجماعات ، و ما سنكثّفه انطلاقاً من هذا في “ الهويّة ” التي يفهمها البعض فهماً بائساً على أنّ من ضروراتها ، مثلاً ، أن تكون “جامعةً” ، و هو الأمر الغريب و البائس و المُفخخ و الاشتباهيّ ، و هو ما انتقدناه أيضاً هنا في مناسبات عديدة و بخاصّة عندما كانت تلك “الهويّة الجامعة” تطرح على أنّها هويّة “دينيّة” و ضروريّة في ضراوة الشّقاء الذي حمله “ الدّين السّياسيّ ” ، و بخاصّة “ الإسلام السّياسيّ ”.. من ويلاتٍ كانت تكشف دوماً منذ فجر “ اليقظة العربيّة ” ( أو “ اليقظة الإسلاميّة ”! ) الذي يؤرّخه الأتباع و المريدون اعتباراً ممّا يعود إلى أوائل القرن العشرين الميلاديّ العربيّ الفائت و ربّما إلى أقدم من ذلك بقليل!
ذهب قول ( أو بحث مقتضب ) انطباعيّ عن “ الهويّة ” مؤخّراً ، لأحد الأصدقاء ، بعنوان “ هل يمتلك السوريّون هُويّة جامعة؟!!..” ، ذهب إلى جملة من المغالطات و التي نقدّر و نتفهّم مناسبتها و أسبابها أو بعضاً من ذلك إذا أردنا الصّدق و الإنصاف! و نحن لا نتّفق معه حتماً في جلّ “ انطباعاته ” لتخلّيه عن أهمّ مادّة لقوله ، و هو ما يتعلّق بها من الجانب الطّبيعيّ و الفلسفيّ الذي لم يوفق صديقنا في مقاربته ، حسب رأينا .
10▪︎ يقول : “ بدايةً علينا أن ندرك ، بأنّ هناك مستويات متعدّدة لمعنى ومفهوم الهُوية، فالسوريّ ، كما كلّ شعوب الأرض ، يمتلك هُوية اجتماعية وهُوية روحيّة وهُوية سياسيّة ، لكنّ هذه الهُويّات، بالنسبة للسوريين ، أو لغيرهم ، في معظم أوطان العالم ، هي هُويات ليست جامعة!!..”.
و يستطرد : “ باعتبار أنّ السوريين ، يمتلكون هُويّات اجتماعيّة وروحيّة وسياسيّة غير متجانسة ، فهذا يعني أنّهم لا يمتلكون هويّة جامعة ، اجتماعيّاً أو روحيّاً أو سياسيّاً ، لذلك نقول بأنّه لا يوجد تجانسٌ اجتماعيّ بين السوريين ، كما أنّه لا يوجد تجانس روحيّ ، دينيّ او مذهبيّ أو طائفيّ ، كذلك بالنسبة للسياسيّ ، فالسوريّون ينقسمون سياسيّاً ، بين مجموعة من الأحزاب والتيّارات ، وهناك البعض منهم لا ينتمي إلى أيّ حزب سوريّ..”
“ بهذا المعنى لا نستطيع القول بأنّ السوريين يمتلكون هويّة جامعة ، بالمعنى السياسيّ والاجتماعيّ والروحيّ ، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ وهو لا يعيبهم ، ولا يعيب سواهم من شعوب العالم..
“ من هنا يمكننا القول بأنّ الهُويّة الجامعة للسوريين ، ليست سياسيّة أو اجتماعيّة أو روحية ، وهنا السؤال الهام :
“ هل هناك هُوية جامعة للسوريين فعلا؟!!..”.