عماد فوزي شعيبي | مفكر ومتخصص في الجيوبوليتيك .
مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية
الواقع الدولي يتصاعد استفزازٍاً بين أمريكا وبريطانيا وروسيا أولاً، وأمريكا والصين ثانياًً.
لكن البداية هي مع روسيا وذلك في محاولة لفك الترابط بين موسكو وبكين أو على الاقل تحييد روسيا في (المعركة) المفتوحة في بحر الصين الجنوبي، والتي لم تبدأ مفاعيلها بعد بشكل ظاهري.
دخول مدمرات غربية بريطانية وأمريكية إلى البحر الأسود ومن مضيق البوسفور يوحي بأن هنالك صفقةً تجري حاليا أو جرت بين أردوغان وبايدن ضد بوتن. وهي تخالف إلى حد كبير اتفاقية مونترو بشأن نظام المضائق التي عُقدت في مونترو في 1936 ومنحت تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل، لتنظيم عبور السفن الحربية. وتضمن حرية مرور السفن المدنية في وقت السلم، وتقيّد مرور السفن البحرية التي لا تنتمي إلى دول البحر الأسود، باختصار لاتسمح بدخول السفن الحربية الغربية إلى تلك المنطقة.
الحدث الذي جرى في 23 حزيران بدخول المدمرة البريطانية إلى قرب سواحل القرم كان استفزازاً واضحاً و. وقد كان ظاهريا بمثابة رفض غربي لضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. لكن واقع الأمر أنه كان بمثابة رسالة استفزاز أمريكية بريطانية معا للضغط على موسكو بسبب علاقتها الاستراتيجية مع الصين؛ حيث يود بايدن من موسكو فك الترابط سابق الذكر ، لمحاصرة الصين في بحر الصين الجنوبي منفردةً بدون دعم قوة كبيرة كالاتحاد الروسي. وهذا ما حاوله الرئيس السابق ترامب وما يحاوله الرئيس الحالي بايدن والدولة العميقة الأمريكية بأدوات عملية أكثر. فدخول المدمرة البريطانية قد ترافق مع تحليق لطائرات الاستطلاع الأمريكية ما يؤكد التنسيق.
الغريب في الأمر أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد من موسكو ما لا يمكن أن تطيقه؛ فالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية بين روسيا والصين أكبر من أن يتم التخلي عنها تحت واقع الضغط.
موسكو بدورها استجابت لتحدّي مجالها الحيوي.
فقد أصدر الرئيس بوتين مرسوماً رئاسيًا في 1 تموز/ يوليو ، سمح به للجيش الروسي بإغلاق الأراضي والمياه المحيطة بالمناطق التي تعتبر مجالاً حيويًا تم اختراقه استفزازيّاً ، بحيث يحمي مياه مضيق كيرتش والجسر فوقه والمنطقة المائية المحيطة بشبكة الكهرباء الروسية التي تربط شبه جزيرة القرم.
و يوفر المرسوم الأساس القانوني للقوات المسلحة الروسية لتطويق هذه المناطق أثناء محاولات “العبور والتسلل غير القانونيين” إلى منطقة المياه المحيطة ومحاولات الخروج منها.
إن هذا الإجراء هو رسالة للرد على الاستفزاز او على الاقل لكبح محاولات قادمة. فوجود أساس قانوني من المفترض أن تستجيب له الدول الأخرى وبطبيعة الأحوال لا نعتقد بأن
الدول العظمى تذهب إلى مواجهات فعلية وإلا لكانت موسكو قد رديت على دخول المدمرة البريطانية HMS Defender “المياه الإقليمية الروسية” في البحر الأسود، بشكل عدواني، لكنها آثرت تطويق الموقف برسم دائرة استراتيجية لمنع تكرار الاستفزاز.
وهكذا ، فقد سيطرت روسيا بحكم الأمر الواقع الجديد، بالمرسوم الأخير، على مضيق كيرتش. وبموجب المرسوم الرئاسي ، ستسيطر موسكو من الآن فصاعدًا على كل مداخل بحر آزوف. وهذا تصعيد (قانوني) يهدف إلى منع احتمالات قادمة. وهكذا يلعب الكبار!
وبموجب ماسبق فقد خُلقت نقطة اشتعال جديدة، بتحول شريان الحياة الاقتصادي لماريوبول ، وهي مدينة ميناء صناعي أوكراني مهم تقع على شاطئ بحر آزوف، إلى نقطة الاختناق في الصراع الدائر حالياً كما يلاحظ (بهداركومار). فبعد سيطرة روسيا على مضيق كيرتش فإن أوكرانيا المدعومة من الغرب في لُجّة الصراع تجد ميناءها سابق الذكر، وهو ذو أهمية حاسمة لتصدير الحبوب والصلب من أوكرانيا، أمام حقائق جديدة.
والغرب أمام رد الفعل الروسي “غير المتماثل” في ملف مجاله الحيوي و في ملف أوكرانيا ، لابد أنه سيبحث عن ردود… وهكذا دواليك في صراع أشبه بصراعات الحرب الباردة أو تزيد.
لا نعتقد بأن هذا الصراع سيصل إلى حد الصدام المباشر. فالقوى العظمى لا تصطدم بشكل مباشر، وهذه هي قواعد اللعبة بينها لكنها تناوش بعضها البعض، وساحة النزال غير المباشر تكون في مكان آخر.
ساحة مجلس الأمن هي الساحة الأولى في هذا النزال بخصوص المعابر ولابد أن نرى سجالات. والأغلب أن تكون هنالك مقاسمة إرادات، فالامريكي قد لا يعتبرها قضيته الأم والروسي لديه الفرصة لتعديلات بالإشراف من دول أستانا مع الدولة السورية على التوزيع، (وهذا سيعني أن تركيا لم تذهب بعيدًا مع واشنطن)وربما تكون هنالك مقترحات أخرى.
ماذا عن الدور التركي؟
وهل هنالك تغيرات استراتيجية في الموقف التركي من روسيا؟ فالأمر بالنسبة لي أردوغان يقع بين حديّ الشفرة؛ فمصالحه في الغاز مرتبطه مع روسيا وفي قطاعات اقتصادية بل واستراتيجية أخرى مهمة، لكنه يريد إنقاذ راسه من وضعه تحت المقصلة الامريكية. وفي تقديري لنا انه لم يتخذ قرارا بالانحياز إلى الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كامل، و إلا فإنه سيكون كمن يطلق النار على قدميه الاستراتيجية، وسيكون الرد الروسي الاقتصادي أصعب استراتيجياً من الرد الأمريكي الحالي على العملة التركية. فتركيا لا تستطيع اليوم أن تنحاز إلى أيٍّ من الطرفين بشكل كامل أوهكذا يقول المنطق. فهي (تسرب!) الأمريكيين والبريطانيين إلى البحر الأسود، وبنفس الوقت تبقي الجسور مفتوحة مع موسكو. أو هكذا يبدو حتى الآن. إلاّ إذا تبين أن أنقرة قد ارتكبت الخطيئة الاستراتيجية بالذهاب بعيدا مع الولايات المتحدة الأمريكية ضد موسكو فإن ساحات التوافق ستتحول إلى ساحات النزال.