توفيق شومان | كاتب وباحث لبناني
ثلاثة من كبار رؤساء الحكومات اللبنانية، أتوا من فج عميق المقام والوجاهة والثقافة والثراء والإدارة والعمل السياسي الذي كاد يوصل رقابهم أو رقاب آبائهم إلى مقاصل السلطات العثمانية ومشانقها، وعانوا معاناة الأذلاء من المطاردات والمنافي الفرنسية. الثلاثة هم رياض الصلح، رشيد كرامي وصائب سلام.
أحمد باشا الصلح، كان من آكابر الدولة العثمانية ومن كبار المتمردين عليها، وهو الجد المباشر للعائلة الصلحية التي قدّمت أربع رؤساء حكومة من النوع الرفيع، قال فيهم البطريرك المعوشي حين آلت رئاسة الحكومة إلى تقي الدين الصلح في عام 1973:”آل الصلح ضمانة للبنان وللمسيحيين عموماً وللموارنة خصوصاً، لأنهم روح العروبة في لبنان، وروح لبنان في دنيا وبلاد العرب”.
في عام 1860، حين ضربت الفتنة العمياء لبنان وسوريا، وراح العثمانيون يساعدون فئة من المسلمين؛ والروس يؤازرون فئة من المسيحيين؛ والفرنسيون ينصرون فئة أخرى، على ما يقول الشاهد على تلك الفتنة ديمتري الدباس (1837 ـ 1912) في كتابه “تاريخ وذاكرة صراع”، تواصل أحمد باشا الصلح مع الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق بهدف توفير الحماية للمسيحيين والصد عنهم، وكان النبل غاية الإثنين، وكذلك كان الحال بين أحمد باشا الصلح وأعيان الجنوب اللبناني.
في الفترة عينها، كانت الروح الوطنية قد أخذت مأخذاً من أحمد باشا الصلح، بالتوازي مع أبناء جيله سعياً للخروج من الدائرة العثمانية، وهي الطريق نفسها التي سلكها إبنه رضا الصلح والد رياض الصلح، مساهمة ـ في ـ وتأسيساً للجمعيات والأحزاب الداعية للإستقلال الوطني، من مثل “جمعية الإصلاح” و”الإخاء العربي” و”المنتدى الأدبي”، وفي لحظة ما، كاد رأسا رضا ورياض تطيحهما مشنقة جمال باشا السفاح، مع غيرها من الرؤوس الجليلة التي أطاحها جمال باشا في بيروت ودمشق.
ذهب العثمانيون وجاء الفرنسيون، وجرى كر وفر بينهم وبين آل الصلح، إلى أن جاء كبير منهم إسمه كاظم الصلح وقال إن نصف لبنان مع الوحدة السورية ونصفه الآخر ليس معها، ونصفان لا يساويان واحداً، كيف نساوي واحداً؟ من خلال جمع النصفين، وهكذا كان لبنان، وكان ميثاقه بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، وجرّاء الميثاق، نشأت الشراكة بين الرجلين، ومرت الولاية الرئاسية الأولى لبشارة الخوري بتمام وكمال، وفي الولاية الثانية برز “السلطان سليم” شقيق بشارة الخوري، فصال في الحكم وجال إلى أن فرّ رياض ونفر من حكم السلطان الشقيق.
عن نفور رياض الصلح، يقول تقي الدين الصلح:”بشارة الخوري تجنى على رياض الصلح ولم يحفظ له ما قام به نحوه ونحو البلاد”.
ذاك كان الإحباط الأول.
صائب سلام، هو إبن سليم علي سلام، ومن هو هذا؟ هو نائب بيروت في مجلس “المبعوثان” العثماني عن ولاية بيروت التي كانت ممتدة من مدينة اللاذقية السورية إلى مدينة يافا الفلسطينية المحتلة، ورأسه كما رأس رضا الصلح كاد يهوي عن كتفيه بحبال مشانق جمال باشا، وفي دارة آل سلام في منطقة المصيطبة البيروتية الشهيرة، انعقد “مؤتمرا الساحل والأقضية الأربعة” عامي 1933 و1936 لتقرير مصير لبنان كوطن مستقل أو مندمج مع سوريا، وفي الدارة ذاتها، اجتمع القادة اللبنانيون وكلّفوا صائب سلام برئاسة “حكومة الظل” بعدما اعتقل الفرنسيون قادة الإستقلال اللبناني عام 1943، ويوجز صائب سلام تجاربه الثلاث مع رؤساء الجمهورية بشارة الخوري وكميل شمعون وسليمان فرنجية بالقول:
ـ حين كان السباق بين بشارة الخوري واميل إده:”جاء بشارة الخوري إلى هنا وأيّدته، وقال لي طوقت عنقي بالفضل من الآن وإلى أبد الآبدين، وتبين كل ذلك أنه كان كان كلاماً سياسياً”، مثلما ورد في حوار مع صائب سلام أجراه غسان شربل رئيس تحرير صحيفة “الحياة” سابقاً (“الشرق الأوسط” حالياً).
ـ الرئيس “كميل شمعون هاجمنا كثيراً ونكل بنا وسجننا”.
ـ إن “ترشيح سليمان فرنجية، حصل في إجتماع عقد هنا حول طاولة الزهر، كنا نلعب الطاولة أنا وفرنجية وبقربنا جوزيف سكاف ونسيم مجدلاني”، ولما فاز فرنجية في الإنتخابات الرئاسية عام 1970، تولى صائب سلام رئاسة الحكومة، وراحت الخلافات تتوسع بينهما إلى أن انفجرت عام 1973، بعدما طالب سلام بإقالة قائد الجيش اسكندر غانم إثر اغتيال فرقة كوماندوس إسرائيلية ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في فردان، ولما رفض فرنجية استقال سلام وقال قولاً مأثوراً:”طلقت رئاسة الحكومة بالثلاث”، وبالفعل لم يعد إليها.
كان ذلك الإحباط الثاني.
رشيد كرامي الذي قُتل غيلة عام 1987، هو إبن مفتي وحفيد مفتي، جده رشيد سليل الجاه والثراء والإفتاء، سمعته ونفوذه إمتدا إلى سوريا وفلسطين، وأما عبد الحميد والد رشيد، فقد ورث سلالياً ما سبق قوله عن واقع الحال والمقام بما فيه موقع الإفتاء، وهو دون العشرين من العمر، وحين إعتقلته السلطات الفرنسية المنتدبة للمرة الأولى في ثلاثينيات القرن العشرين، جراء حادثة خاصة وقعت في المدينة، تحولت قضيته إلى قضية وطنية عامة تجاوزت طرابلس ولبنان، فمن بيروت ذهب رياض الصلح إلى طرابلس، ومن القدس جاء المفتي أمين الحسيني، ومن دمشق جاء جميل مردم بك وفخري البارودي وسعد الله الجابري.
ينقل حكمة أبو زيد في كتابه “رؤساء حكومات لبنان كما عرفتهم” عن رشيد كرامي سؤالاً ملؤه العتب واللوم وجراحات النفس، إذ كان رشيد كرامي يعوّل على رئاسة الحكومة في عهد الرئيس الياس سركيس، بإعتبارهما من “النهج الشهابي” إياه، ولكن سركيس عزف عن ذلك، ولذلك سأل كرامي حكمة أبو زيد:”ما قصتكم أنتم الموارنة؟ والله أمركم محير”.
هذا التساؤل أو السؤال، نقله حكمة أبو زيد إلى الرئيس سركيس، فأجابه الأخير:”معه حق، لكن العين بصيرة واليد قصيرة، والرئيس كرامي يعرف الحقيقة”، وبحسب حكمة أبو زيد “الحقيقة التي عناها الرئيس سركيس، أن القوات اللبنانية بقيادة الشيخ بشير الجميل وضعت فيتو على كرامي ومنعت سركيس من تعيينه رئيساً للحكومة”.
ذاك هو الإحباط الثالث من سلسلة الإحباطات التي تعاقبت إلى مرحلة ما قبل الوصول إلى “اتفاقية الطائف” في عام 1989، ولكن في طريق الإحباطات الكثيفة تلك، شكّل الإحباط الكبير من قانون انتخابات العام 1957 ونتائجه التي أسقطت صائب سلام وعبداالله اليافي ورشيد كرامي وحميد فرنجية وكمال جنبلاط وأحمد الأسعد وصبري حماده، إنزياحين خطيرين اثنين :
ـ الأول: إنزياح المسلمين عموماً، والسُنة خصوصاً، نحو مصر بقيادة جمال عبد الناصر، من خلال ما يُعرف بـ”ثورة عام 1958″.
ـ الثاني: إنزياح إسلامي عام في مرحلة لاحقة نحو المقاومة الفلسطينية، بهدف إيجاد “توازن قوى” يمهد لإصلاح النظام السياسي اللبناني.
هنا اشتد الإحباط، فأعقبه نزاع، والنزاع صار صراعاً، وتحول لبنان ساحة لـ”صراع القوى”، وبإشتداد الصراع، قبله وبعده بقليل وما بعده، نشأ التطرف والغلو الأسود ومغذياته الأسوأ على الشكل التالي:
ـ فريق يطالب بـ”عزل” حزب “الكتائب اللبنانية”، فينتج عنه التفاف مسيحي عام، وماروني خاص حول “الكتائب”، وضمن هذا المشهد، برزت صورة الإنقسام الطائفي بأكثر نماذجها رداءة وسوداوية، فغالبية المسيحيين صاروا في جبهة، وغالبية المسلمين في جبهة مقابلة كنتيجة عملية لقرار “العزل” السيء الذكر.
ـ فريق لبناني تأخذه حمأة الميدان نحو الحسم العسكري، وفريق آخر تأخذه حمأة العصبية نحو الفيدرالية أو التقسيم.
ـ انتعاش خطاب التعامل مع إسرائيل وخروجه من الكهوف الصامتة إلى الألسنة الناطقة والإستراتيجيات القاتلة.
ما النتيجة؟ هلاك عام وموت أعم.
جاءت “اتفاقية الطائف” لتسد أفواه البنادق وتخرسها، وتؤسس لتسوية تاريخية بين اللبنانيين، إلا أن دماء تلك الإتفاقية تفرقت بين القبائل والطوائف، وأردأ من ذلك، إنتقل الغبن والإجحاف، إلى ضفة لبنانية أخرى غير التي كانت قبل “الطائف”، ولعل مقاطعة أكثر من تسعين في المائة من المسيحيين لإنتخابات العام 1992، كانت التعبير الأقوى والأقسى عن حالة الإحباط التي ضربت فئة لبنانية كبرى، وتبعها إحباط مضاعف أنتجه “الحلف الرباعي” عشية انتخابات العام 2005.
قبل حرب العام 1975، لم يتفهم أهل السياسة الموارنة حالة الإحباط عند المسلمين عموماً، وبعد “الطائف” لم يتفهم أهل السياسة المسلمون حالة الإحباط عند المسيحيين وعلى رأسهم الموارنة، وكأن التحبيط سلوك سياسي لبناني تقليدي ومتوارث.
ماذا عن المسلمين الشيعة؟
في كتاب “فؤاد شهاب ذلك المجهول”، يقول باسم الجسر، أحد أهم الذين كتبوا عن المرحلة الشهابية:”جاءت مرحلة الإزدهار الإقتصادي التي عرفها لبنان منذ مطلع الخمسينيات، لتجعل أبناء المناطق ـ عكار والبقاع والجنوب ـ وأكثرهم من المسلمين، يشعرون بمزيد من الغبن”، يضيف أن الإزدهار الإقتصادي الحر في غياب الضمانات الصحية والعدالة الإجتماعية والتعليم، “كان يزيد شقة الفروقات الطبقية بين اللبنانيين عامة، وبين المسيحيين والمسلمين بشكل خاص، والشيعة بشكل أخص”.
وعلى هذه الحال، ماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة أن المسلمين الشيعة، تحوّلوا إلى مناوئة النظام السياسي اللبناني ومناصرة خصومه، فتغلغت في ضواحيهم ومدنهم وقراهم أحزاب المعارضة بشقوقها القومية واليسارية، فضلاً عن الإنخراط الكثيف في التنظيمات الفلسطينية، ولما باتت حقائب النزوح والتهجير المحمولة على ظهور أهل الجنوب جرّاء الإعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، من السمات والمشاهد اللصيقة بالجنوبيين لسنوات وعقود، فقد غدت حقائبهم بيوتهم النقالة، وفقدوا معها نعمة الأمن كأولى حاجات البشر، ووصل الأمر إلى كثيرين منهم بالتشكيك بالإنتماء متساءلين: هل نحن من هذا الوطن؟.
ذلك هو الإحباط بعينه وذاته، لكنه لم يكن نهايته، فنصف ذروته تجمع في عام 2000، حين انسحب الإسرائيليون من معظم الأراضي اللبنانية، آنذاك: قلة من أبناء الوطن إبتسمت للأمن المقبل على الجنوب، وفي عام 2006، كانت ذروة المأساة، فقبيل وبعيد وقف إطلاق النار في 14 آب/ أغسطس، وحيث جثث الناس المحترقة والمتفحمة تملأ البنايات والأزقة والحارات، وفيما إسرائيل تزداد فتكاً بالضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب، أطلت جماعات وأحزاب لبنانية لتقول وتعلن:”ارموا سلاحكم”.
كيف ذلك؟
يجيب على هذا السؤال الوزير الأسبق بهيج طبارة في كتابه الجديد “كتابات في دولة القانون”، فيقول إنه عارض البيان الصادر عن فريق سياسي لبناني بعد اجتماع أركان هذا الفريق في فندق “البريستول” في أيلول/ سبتمبر 2006، إذ وردت فيه مرتان الدعوة إلى نزع سلاح حزب الله، ومتى؟ “حين كنا لا نزال نجرجر أذيال العدوان الإسرائيلي” يقول طبارة.
عودة إلى المسلمين السنة، وإلى طرابلس هذه المرة.
ما جرى مؤخراً في عاصمة الشمال يختزن مجموعة من الآلام، على رأسها يقف التسطيح والتبسيط القائلان بأن الوقائع الطرابلسية لا تتجاوز كونها شكلاً من أشكال الضغوط السياسية بين المتصارعين على تشكيل الحكومة، أو بين متصارعين على الزعامة في مدينة الفيحاء، أو تحريكاً لحراك سياسي هو عبارة عن رأس حربة أو رؤوس حراب خارجية.
الأمر أبعد وأعمق بكثير من هذا التسطيح، إنه إحباط المسلمين السنة، إحباط تمثلت تعبيراته الرمزية العنيفة والمتطرفة بحرق أو محاولات حرق مبنى البلدية والسرايا الحكومية وعدد من المخافر والمحكمة الشرعية، أي كل ما يمت بصلة إلى مؤسسات الدولة، وكأن فعل الحرق المنبوذ والمدان، عنوان للإنسحاب من الدولة ودعوة لمراجعة الإنتماء إلى الهوية الوطنية.
المسلمون السنة محبطون، وخصوصاً في الشمال حيث الثقل السني وأكثره من المعدمين والمياومين والفقراء، فلا قياداتهم المفترضة فعلت ما يتوجب عليها، ولا الدولة العتيدة تحملت مسؤولية أو إمتلكت حساً أخلاقياً تجاههم، ومما زاد بلاءهم، أنهم يرون بأمهات العيون ذبول مدينتهم طرابلس التي كانت زهرة بلاد الشام، وبعيونهم أيضاً يرون رموزهم السياسية أو من كانوا رموزهم، قد شتتها السيل العرم وتفرقت مللاً ونحلاً، وأصبحت عاجزة عن تشكيل حكومة، وإن تشكلت، فتلك الرموز هي الأقل فاعلية وحضوراً.
أليس ذلك هو الإحباط؟
في عقود الإحباط الإسلامي عموماً، والسني خصوصاً، في مرحلة ما قبل العام 1975، كانت طرق المحبطين نحو مصر أو السعودية أو المقاومة الفلسطينية، وفي هذه المرحلة الطرق الثلاث مسدودة، ولكن هناك طريقين بديلتين مفتوحتين: “داعش” أو تركيا.
اللهم إني بلغت.