في أن مشروع الدولة العربية مُلحٌّ وأقل كلفة.
علي كوثراني | كاتب وباحث لبناني .
كما ثبت أن كلفة المقاومة هي أقل بكثيرٍ من كلفة الخنوع للهيمنة، فإن كلفة بناء الدولة هي أيضًا أقل بكثيرٍ من كلفة تدابير كسر الحصار بالمُفرَّق. إن التدابير العتيدة، وإن كانت ضروريةً ومُقدَّرةً ومباركةً وجزءًا أساسيًّا من العمل المقاوم نفسه، إلا أنها تبقى مرحليةً ومكلفةً ومرهقةً للمقاومة وفوق ذلك لا ترقى إلى التحرر الشامل، إذ أن بناء الدولة العزيزة المقتدرة هو السبيل الوحيد لحفظ وتطوير إنجازات المقاومة، الذي لا يكتمل التحرر بدونه.
إن المصيبة الأساس في بلادنا هي الزلزال الجيوسياسي التي ضربها إثر تصفية الغرب للدولة العثمانية بعد الحرب الأوروبية الأولى وما سبق ذلك من نخر القوى الغربية لها من الداخل، الأمر الذي انعكس بتفتيتنا وفصل شعوبنا ومواردنا وأسواقنا عن بعضها البعض بكياناتٍ وحدودٍ صُممت لتكون عيقمةً وولَّادة للأزمات أبدًا، فتبقى بلادنا ومن عليها وما فوقها وتحتها مذعنةً للهيمنة الغرب وفريسةً للنهبه.
من لزوم ما لا يلزم هنا الإشارة إلى أن الدولة العثمانية التي كانت دولتنا جميعًا، والتي ضُربنا جميعًا بضربها، لا تمت بِصلةٍ لتركيا الناتوية التي اُقيمت على بعض أنقاضها كما اُقِمنا، وأن تركيا الناتوية بوجهيها “العلماني” السابق و”الإسلاموي” الحالي عَمِلت ولازالت تعمل لصالح القوى الاستعمارية المعادية، تلك القوى التي سبق وأن فتت الدولة العثمانية نفسها عبر الثورة العربية الكبرى وثورات اليونان والبلقان، والتي عادت لتسهدف وبمساعدة تركيا الكيانات التي تشظت عن الدولة العثمانية. والإشارة هنا ردٌ على كل الأورومركزيين وأصحاب الحساسيات الكيانية والأفق الضيق.
من هنا، فإن تشخيص الداء من الضروري أن يكون دقيقًا قبل الولوج بالحلول، لأن أوجاعنا في العيش والغذاء والاستشفاء والتعليم والعمل وغيرها ليست الداء نفسه بل أعراضه، وأن جميعها ناتجةٌ عن غياب الدولة الحقيقية التي مُنع وجودها بحكم هذه الترسيمات الاستعمارية التي عُززت بتثبيت النواطير التي أعطيت امتياز توزيع الريع في كل من تلك الكيانات وبالمخفر الصهيوني الرادع لسكان الكيانات، تلك العناصر التي تشكل مرتكزات الهيمنة التي تهدف إلى تأبيد النهب الغربي وضمان حُسن سيره.
بناءً عليه، فإن تخفيف الأعراض والآلام لا شك هو أمرٌ ضروريٌّ، ولكن الأعراض والآلام مستمرةٌ باستمرار أصل الداء لا بل ومتفاقمة. ولا شفاء من داء غياب الدولة إلا بأن تتكلل جميع جهود قوى المقاومة بمشروع بناء الدولة في بلادنا. دولةٌ عربيةٌ صاعدةٌ ليست وليدة رغبات أحد، ولا تعبيرًا عن تعصب وعنصرية أحد، بل استجابةً للحاجات الموضوعية الملحة لمئات الملايين ممن سلبوا معاشهم وأمنهم. دولةٌ ليست حتميةً تاريخيةً، ولكن دونها المزيد مما نحن فيه.