ما حقيقة بيع 27 ألف شهادة جامعية لبنانية لعراقيين؟
بغداد تحظر التعامل مع ثلاث جامعات في بيروت ومصدر في وزارة التربية اللبنانية يقول إن الأرقام مبالغ فيها
يحمل معه ملفاً مكتوباً عليه “شهادة مزورة” وتعقبه آثار بصمات واضحة كالتي تستخدمها الأدلة الجنائية لكشف الجرائم، تشير إلى عملية التزوير والحصول على شهادة الدكتوراه.
بهذه الرسمة لفنان الكاريكاتير العراقي خصير الحميري التي سماها “شهادات مزورة للمسؤولين”، لخص الخبر الذي أثار ضجة كبيرة ومفاده وجود 27 ألف شهادة جامعية مبيعة لعراقيين من قبل الجامعات اللبنانية. ويشير الخبر إلى “أن الشهادات المبيعة حصل عليها طلاب عراقيون عاديون أو أبناء نافذين في العراق، بل ونالها أيضاً مسؤولون ونواب عراقيون”.
الصحيفة التي نشرت الخبر أخفت أسماء المتعاونين في بيع الشهادات خلف أحرف لا نعلم إن كانت تشير إلى أحرف أسمائهم الأولى واكتفت بالقول “إن الشخص المتورط في لبنان أستاذ متعاقد في إحدى الجامعات اللبنانية، لكنه يعمل على حسابه الخاص من خلال تأسيس «أكاديمية» في لبنان، كان الهدف منها عقد مؤتمرات بالتعاون بين جامعات لبنانية وعراقية وإجراء تدريبات وتحولت لاحقاً إلى مكتب سمسرة وتسهيل خدمات للطلاب العراقيين للحصول على الشهادات الجامعية. ووظف شخصين لتسهيل أمور الطلاب في وزارة التربية، لإجراء المعاملات نيابة عن الطلاب العراقيين، الراغبين بالفرار من الجامعات العراقية التي تلزم الطلاب بنسبة حضور بنحو 30 في المئة”.
تفاصيل الخبر أشارت إلى تورط شخصيات حكومية أدارت مكتباً في منطقة الكرادة في بغداد، ليكون صلة الوصل بين نواب ووزراء ومسؤولين عراقيين، بالشخص اللبناني.
ووفق المعلومات “تصل العمولة التي يتقاسمها الشخص اللبناني مع مسؤولين عراقيين في بيروت إلى نحو خمسة آلاف دولار عن كل طالب ماجستير، وعشرة آلاف دولار عن كل طالب دكتوراه”.
من جهة ثانية، أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث بخصوص الدراسة في الخارج بعد القضية التي أثيرت حول الشهادات المبيعة تعليمات جديدة، منها إخضاع الرسائل والأطروحات للطلبة العراقيين في الخارج لعملية الاستلال الإلكتروني، وإخضاع الدارسين على النفقة الخاصة لتقييم علمي وعرضهم على اللجان العلمية، كما تقرر تعليق الدراسة في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم والجامعة الإسلامية وجامعة الجنان في لبنان.
التعليم العالي تكتفي بقرار إيقاف المباشرة الإلكترونية
لم تعلن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق عن الإجراءات المتخذة بحق الشهادات المبيعة التي وصلت إلى 27 ألف شهادة، ولم توضح سير التحقيق في ملابسات الموضوع، بل اكتفت وعلى لسان مدير عام دائرة البعثات والعلاقات الثقافية في وزارة التعليم العالي حازم باقر بقرار “إيقاف المباشرة الإلكترونية للطلبة الدارسين بالخارج”. وأكمل الخبر الذي نشرته جريدة الصباح العراقية الرسمية أن إيقاف المباشرة الإلكترونية “جاء بعد حدوث انفراجة بوضع جائحة كورونا”.
وأكد حازم باقر أن “التعليم العالي لا تعترف بالدراسة فقط عن بعد بشكل كامل، وتم التعامل مع هذا الأمر فترة جائحة كورونا”. كما أكد باقر اعتراف وزارة التعليم العالي بالدراسة عبر منصات الإنترنت خلال جائحة كورونا “الطلبة الذين درسوا أونلاين العام الماضي معترف بدراستهم وفتراتهم معتمدة ومحتسبة”.
قرار إيقاف المباشرة الإلكترونية الذي عمم على السفارات والملحقيات الثقافية العراقية، يقر في الوقت ذاته باعتراف الوزارة بالشهادات التي حصل عليها الطلبة عبر التعليم الإلكتروني العام الماضي، ما يعني أن الشهادات التي وصل عددها إلى 27 ألف شهادة قد تجد لها طريقاً للاعتراف بها تحت هذا البند.
الشهادات المزورة ستفقد الرصانة العلمية
في المقابل، يرى البروفسور محمد الربيعي، الأستاذ في جامعة دبلن، رئيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج، أن الرصانة العلمية تداعت في الجامعات العراقية وأصبحت مفقودة تماماً. يصف الربيعي الجامعات العراقية “بالمصانع القديمة التي تنتج بضائع لا يرغب بها سوق العمل، وذلك يعود إلى هيمنة القوى السياسية على إدارة وتسيير التعليم العالي وسوء سياسة القبول وانعدام كفاءة التدريس وضعف المناهج وهدر ونهب الموارد المالية ونقص فرص البحث الحقيقي”.
غياب المحاسبة
يتعجب الربيعي من عدم محاسبة أحد من أصحاب هذه الشهادات، “فلم يحاسَب أحد على تزويره وتحايله على القانون، ومهما كانت الرصانة ضعيفة أو مفقودة فلا بد أن تتأثر الجامعات العراقية بكثرة الشهادات الزائفة لسبب بسيط، وهو أن كثيرين من حملة هذه الشهادات سيجدون طريقهم كمعلمين في الجامعات وهذا طبعاً سيزيد من حدة الفساد فيها ومن انحسار للأخلاق الأكاديمية”.
الشهادات العليا وسيلة للهروب من البطالة
في سياق متصل، توضح موج يوسف، طالبة الدكتوراه في الجامعة العراقية كلية الآداب، أن العراق يعيش أزمة شهادات عليا ولا نقصد على مستوى القلة أو الندرة بل الكثرة المفرطة في عدد الحاصلين عليها. وترى يوسف أن ذلك يعود إلى عاملين، الأول أن من يعمل في القطاع الحكومي يسعى للحصول على الشهادة العليا، بهدف تحقيق بعض المكاسب التي تتيحها الشهادة، ومنها الترقية وزيادة الراتب، والعامل الثاني يعود إلى ارتفاع نسبة البطالة، فالطالب الذي يُصدم بعقبة البطالة يلجأ إلى إكمال الدراسات العليا لا سيما خارج العراق.
جهود الحصول على الشهادة داخل العراق
وترى موج أن الدراسات العليا في العراق تخضع لمعايير معينة، منها الامتحانات ومرحلة كتابة البحث، ولم يتم استثناء الدراسات العليا من الدوام الحضوري في وقت جائحة كورونا “وإذا قارنا جهود الحصول على الشهادات العليا من العراق مع مثيلتها في الخارج التي في الغالب تستقطب أصحاب المعدلات الضعيفة، فهي حتماً جريمة كبرى، فمن الطبيعي أن تؤثر سلباً في مَن حصل على شهادة عليا داخل العراق”.
وعندما يبدأ الطالب بمعادلة شهادته التي حصل عليها من خارج العراق يبدأ بعدها بالمنافسة على الدرجة الوظيفية التي يسعى لها من أكمل المتطلبات الصعبة للحصول على الشهادة العليا داخل العراق.
التعليم مجرد سلعة
ويقول الربيعي إن الكليات والجامعات الأهلية متهمة بتهديم التعليم والأدلة كثيرة على إثبات خطورتها على التعليم. تكمن المشكلات الرئيسة في تمتعها بمميزات فريدة كالنفعية والربحية، خصوصاً في مجتمع تقلصت فيه أدوار الجامعة في بناء الإنسان ويمر بأزمة أخلاقية واسعة النطاق، فيه تتفكك منظومة الوحدة الوطنية بمفاهيم الطائفية السياسية والعرقية واتسع فيه حجم الفساد.
يختم الربيعي أن الكليات الأهلية أثبتت أن التعليم العالي مجرد سلعة استهلاكية والهدف الوحيد هو الربح.
التعليم العالي في العراق مشاكل شائكة
يرافق التعليم العالي في العراق مشاكل جمة، منها ما أثير سابقاً حول قانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية الذي صوت عليه البرلمان العراقي في 28 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، والذي سمح للنواب والوزراء والدرجات الخاصة بالدراسة خلال مدة إشغالهم وظائفهم، ويمنح القانون المصوت عليه ألقاباً علمية وأكاديمية خارج ضوابط التعليم العالي، مما دفع المحكمة الاتحادية العليا إلى إصدار قرار قضت فيه بعدم دستورية بعض المواد في القانون، منها “عدم دستورية البند الثالث من المادة الثالثة من القانون المتعلق بحصر عمليتي المعادلة والتقييم للشهادات باستيفاء الجوانب الإجرائية”.
لا يمكن حصر الشهادات المبيعة في لبنان فقط، فهناك شهادات من دول أخرى مثل إيران التي لا تشترط أيضاً حضور الطالب لإكمال متطلبات الدراسات العليا، وكذلك لا تلزمه بكتابة الأطروحة باللغة التي تعتمد عليها الجامعة، بل بإمكان الطالب كتابة الأطروحة باللغة العربية، على الرغم من أن اللغة المعتمدة هي الفارسية، وهذا ما يطرح تساؤلات لا تنتهي حول رصانة هذه الشهادات.
وجهة النظر اللبنانية
من جهة ثانية، يعتبر القطاع التعليمي بخاصة التعليم العالي أحد القطاعات التي يتميز بها لبنان، من ناحية تقديم الخدمات التعليمية الجامعية بجودة عالية، والمرونة المطلوبة التي تتماشى مع متطلبات المرحلة خصوصاً جائحة كورونا. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي يعانيها لبنان فقد بقي قطاع التعليم الجامعي يستقطب الطلاب العرب وتحديداً الطلاب العراقيين.
تقاعس اللجان الفنية
وعن صحة الخبر الذي انتشر ومفاده بأن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية سحبت الملحق الثقافي في السفارة العراقية في لبنان، هاشم الشمري، إلى العراق وأحالته على التحقيق، نفى مصدر في لجنة المعادلات للتعليم العالي في لبنان ذلك، مؤكداً أن “الأرقام المتداولة عن 27 ألف شهادة مبالغ فيها كثيراً”، مشيراً إلى أن “هناك في دائرة المعادلات إحصاءات دقيقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة توضح أن عدد الشهادات المعادلة في لبنان لم يتعد المئات”.
ولفت المصدر ذاته إلى أنه “في التعليم العالي هناك معايير دقيقة تطبق على كل الجامعات العاملة في لبنان، وأن اللجان الفنية المعنية بتطبيق المعايير لا تقوم بدورها كما يجب، وقد استغلت الجامعات جائحة كورونا وارتكبت مخالفات بما يتعلق بأعداد الطلاب، علماً بأن هذا لا يعني إطلاقاً أن الأرقام المتداولة عن 27 ألف شهادة هي صحيحة وهناك أهداف سياسية خلفها”.
أرقام مبالغ فيها
وفي هذا السياق، يشير مصدر مطلع في وزارة التربية والتعليم العالي في لبنان، إلى أن “كل ما أثير في الإعلام عن موضوع بيع 27 ألف شهادة جامعية عليا صادرة عن جامعات لبنانية يعتبر موضوعاً إعلامياً أكثر منه موضوعاً تربوياً أو قانونياً. فهذا الحديث فيه شيء من المبالغة، فلا الرقم المذكور يتناسب مع وقائع عام 2020 ولا الجامعات المعنية تستطيع منح 27 ألف شهادة خلال عام واحد”.
ولفت إلى أنه “في السنوات الأخيرة، أصبحت الجامعات اللبنانية مركز استقطاب للطلاب الجامعيين من جمهورية العراق، إذ زاد إقبال الطلاب العراقيين على متابعة دراساتهم الجامعية العليا في الجامعات اللبنانية، ويعود هذا الأمر إلى سهولة انتقال الطلاب العراقيين إلى لبنان إضافة إلى النظام التعليمي المرن الذي تقدمه الجامعات اللبنانية، وقد يكون هذا المجال استقطب المكاتب والأشخاص الذين يعملون سماسرة لتسيير الأمور بين العراق ولبنان”.
وأوضح أنه “في حال ارتكبت مخالفات فهي حكماً لا تعني القطاع برمته ولا كل الطلاب العراقيين الذين تابعوا دراساتهم في لبنان، فمعظم الطلاب يتابعون دراساتهم بانتظام ويتقدمون بكل ما هو مطلوب منهم إضافة إلى اضطرارهم للقدوم إلى لبنان فترات طويلة لإنهاء دراستهم وحصولهم على شهادات”.
أما بشأن ما ذكر في الإعلام عن تسهيل من قبل الملحق الثقافي، يرى المصدر ذاته أن ذلك “ليس أكثر من عملية تسهيلات تتعلق بآلية تصديق الشهادات قبل أن يتسلمها أصحاب العلاقة أي الطلاب”. مؤكداً أن “هذا الشأن شأن إداري – دبلوماسي محض، وبالتالي لا علاقة للجامعات ولا للتعليم العالي ولجنة المعادلات بهذا الأمر”، معتبراً أن “تصوير الأمر وكأنه عملية تشوبها الكثير من الشبهات أمر مستهجن، فمن الطبيعي أن تبنى علاقات لتسهيل عملية تصديق الشهادات لتسهيل أمر الطلاب وبخاصة أنهم طلاب من دول عربية شقيقة”.
كما يرى أن “تصوير الأمور كأنها نتيجة فساد إداري متبادل بين البلدين يجعل من كاتب المقال وصاحب الموقع ومن خلفهم في موقع اتهام. ويبدو أن إثارة الموضوع بهذا الشكل لها أبعاد وخلفيات لاستهداف مرحلة معينة خلال عام 2020″، معتبراً أن هذا الأمر “يذكرنا بالحملات المتتالية التي شنت على الوزير السابق طارق المجذوب، الذي لم يتوانَ عن بذل كل الجهود لإعادة ترتيب وضع القطاع التربوي وإعادة العافية إلى عمل المؤسسات التربوية، والحملات لن تتوقف على الرغم من تركه الوزارة. ويبدو أن مقال الـ27 ألف شهادة مزورة يدور في الفلك نفسه، وقد تكون بعض الجامعات اللبنانية قد تخطت الكوتا الممنوحة لها بتخريج الطلاب سنوياً، وقد تكون تساهلت في نوعية التعليم لبعض الطلاب العراقيين بخاصة خلال مرحلة جائحة كورونا، ولكن الأكيد أن المقال الذي تناول القضية بهذا الشكل هدفه الأساسي ضرب قطاع حيوي استعاد عافيته من خلال تحوله إلى ملجأ ومتنفس للطلاب العرب وتحديداً الطلاب العراقيين”.