ايهاب زكي | كاتب وباحث فلسطيني
لبنان بلد المفارقات بالعموم، ولكن المفارقة التاريخية الأكثر عجباً، هي أنّه بلدٌ يمتلك دوراً هائلاً في المعادلات الإقليمية، ففيه مقاومة قوية وقادرة على انتزاع النصر في كل الميادين، وتمتلك قوة ردعية لأعتى جيوش المنطقة، ورغم ذلك فهو يتمسك بضعفه، ويستجدي ما يُسمى بالمجتمع الدولي وما يسمى بالعمق العربي للقبول به ضعيفاً متسولاً وتابعاً. وهذه مفارقة لا سابقة تاريخية لها، فالأمم حين تمتلك ناصية القوة، تجعل منها مفتاحاً لحمايتها وكرامتها ورغدها، فبعض اللبنانيين يحاولون التخلص من قوته باعتبارها مصدر أزماته، ويجعلون منها المشكلة لا الحل، وهذه المفارقة تبدو عصيةً على الاستيعاب. ولو افترضنا أنّ استاذ علوم سياسية أو تاريخية أعطى لطلبته هذه الفرضية لتفكيكها مثلاً، لاعتبروا أنّه إمّا يستخف بعقولهم أو أنّ الأستاذ دخل مرحلة الخرف. لكنها ليست فرضية أكاديمية، بل واقع معاش، يتابعه الناس يومياً، لذلك فإنّ هذا الطرح المجرد عن لبنان بعيداً عن الانقسامات والصراعات السياسية، ودون الدخول في التفاصيل يجعل الأمر أكثر وضوحاً ويبديه على حقيقته.
إنّ الساسة في لبنان يتعاملون مع الدولة على قاعدة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر “أنا الدولة والدولة أنا”، فالدولة في عرفهم ما خُلقت إلّا لتلبية رغباتهم الشخصية. ورغم أنّ هذه القاعدة جريمة بحد ذاتها، إلّا أنّها ليست الأزمة الأهم، حيث إنّها ليست الغاية، ولو كانت الغاية لكان الأمر أقل جُرماً، لكنها الوسيلة لتسليم الدولة لألدّ أعدائها، لـ”إسرائيل” بالأصالة عن نفسها والوكالة عن أمريكا أو العكس، أو للنفط بالوكالة دائماً عن أمريكا أو بالوكالة عن الوكيل الأمريكي “إسرائيل”، والأنكى أنّ هذا التسليم قد يكون مقابل تناول “سندويش” في سفارة، كحدٍ أدنى، والتنعم الشخصي والعائلي كحدٍ أقصى، فالأمر إذًا لا يستحق رهن لبنان شعباً وحكومةً، حتى في عرف نخاسٍ مبتدئ، لذا فإنّ سلوك سفيرتي أميركا وفرنسا ينطلق من هنا، وهو سلوك يتنافى مع أبسط قواعد العمل الدبلوماسي، فهل يمكن مثلاً تصور السفير اللبناني في واشنطن وهو يردد اتهامات ترامب بتزوير الانتخابات، ويصول ويجول على الوزارات والأحزاب وأعضاء الكونجرس مطالباً الإدارة بمحاربة الفساد والتزوير؟ وكيف ستتصرف معه الإدارة من الجملة الأولى للتصريح الأول؟
ولكن آخر تلك السلوكيات النافرة، الإعلان عن زيارة السفيرتين للرياض لمناقشة الوضع اللبناني مع أركان الحكم السعودي، وهذا بعيداً عن كونه إعلانًا شبه رسمي لوضع لبنان تحت الوصاية، فهو يعبر عن الهدف الأميركي بعرقلة كل الجهود لتشكيل الحكومة، فمحاولة إقناع الرأي العام بأنّ قرار التشكيل في الرياض لا في بيروت، والأهم أنّه ليس في واشنطن، وهو ما لا يمكن التعاطي معه بجدية على الإطلاق، فإذا كان قرار الرياض بحد ذاته في واشنطن، فمحاولة واشنطن ذرّ الرماد في العيون، من خلال الإيحاء بالسعي لدى جميع الأطراف لتسهيل التشكيل، ولكن الجميع يعرف أنّه في حال توفر إرادة أميركية حقيقية، فحتى لو كانت أشد الخيارات تطرفاً بالنسبة للرياض، بمعنى لو أنّ حزب الله حصراً، أو حزب الله والتيار قاما بتشكيل الحكومة، فإنّها ستقبل كرهاً أو طوعاً، فالرياض لا تملك على الإطلاق مقومات معارضة واشنطن، فالحكم السعودي يتصرف بمنطق القبيلة لا الدولة، وهذا ما يجعل من تحميلها مسؤولية عرقلة عملية التشكيل، متناسبًا مع منطق النكايات والأحقاد القبلية. وعليه فإنّ الهدف الأميركي هو مشاهدة حطام لبنان، علّه يسقط على رأس المقاومة، ولكن اللافت هو التصريحات “الإسرائيلية” بعد ما يُقال أنّه فشل في زيارة السفيرتين للرياض، رغم أنّها زيارة تم تصميمها لتفشل.
فالتصريحات “الإسرائيلية” أبدت تخوفها من انهيار لبنان، الذي قد يكون ممراً للحرب، وبما أنّ حزب الله لا يفكر بمنطق الهروب إلى الأمام، و”إسرائيل” تدرك ذلك، يصبح السؤال عن مغزى تلك التصريحات وتوقيتها أمراً تلقائياً. قد تبدو هذه التصريحات كساعة صفر لأطرافٍ داخلية لبنانية، للتصعيد أولاً في وجه الحزب، وثانياً تبدو تلويحاً في وجه الحزب لثنيه عن مشروع استيراد الطاقة من إيران، أو يصبح التلويح بالمساعدات “الإسرائيلية” مقابل المساعدات الإيرانية، وقد تكون بشكلٍ غير مباشر عبر أطراف عربية مطبعة، وإذا كان البعض يرى هذا الأمر غير وارد في لبنان، فنستذكر في وقتٍ لم يكن فيه التطبيع قد اتخذ هذا المنحى الوقح حالياً، قال وزير الرياضة التونسي قبل أعوام، “لا مانع لدينا من استقبال مساعدات من “إسرائيل”، لذلك فإنّ الفراغ والسجال هو الهدف الصهيوأميركي في لبنان، حتى تصبح استجارة البعض بنار “إسرائيل” من رمضاء الأزمة مشروعة، ولكن يبدو أنّهم لم يقرأوا حزب الله جيداً، أو أنهم قرأوا جيداً لكنهم لا يملكون وسائل المواجهة، فيضطرون لاختراع استراتيجيات واهمة.
العهد الإخباري