غزّة مُجدّداً.. مُفاجآت حماس وتبدُل قواعد الإشتباك والردع

الياس حنا | عميد ركن واستاذ جامعي

“أتمنّى أن أستيقظ يوما من النّوم فأرى غزّة وقد ابتلعها البحر”، كلام قاله رئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحق رابين يدلّ بصدق عن الصداع الإستراتيجيّ المتكرّر الذي تسببه غزة لإسرائيل. لكن لماذا؟

تحجز غزّة مسافة 42 كلم من الواجهة البحريّة لإسرائيل، الأمر الذي يعطيها حقوقاً في المياه الإقليميّة، ضمناً الثروات. كما تأخذ غزة من العمق البريّ ما يقارب 365 كلم2، يسكنه ما يقارب الـ 1.3 مليون نسمة. والأخطر على إسرائيل أن من يحكم القطاع هو تنظيمٌ مُصنّفٌ “إرهابياً”، يرتكز إلى أيديولوجيّة دينيّة تتطالب بالحد الأقصى السياسي من الكيان – Maximalist – ألا وهو إسترداد كلّ فلسطين التاريخيّة. بكلام آخر، هدف حركة حماس هو إزالة اسرائيل ولا يمكن للدبلوماسيّة أن تفعل فعلها لأن الأمر ربّانيٌ – دينيٌ. ولأن معضلة إسرائيل تقوم على ثلاثة أبعاد هي: الجغرافيا، الطوبوغرافيا والديموغرافيا؛ تقف إسرائيل عاجزة عن إيجاد الحلول الدبلوماسيّة، لتصبح القوّة الصلبة وسيلة وحيدة للحلّ. لذلك هي في وضع (خاسر – خاسر)، إذا أعطت تخسر وإذا تمنّعت تخسر ـ Lose-Lose Situation. ماذا عن الوضع الحالي؟ إنه ببساطة نمط يتكرّر لكن مع ظروف مختلفة. حماس تغيّرت، إسرائيل تتغيّر، السلوك الأميركيّ تجاه المنطقة مختلف. وعند كلّ تغيير، تتبدّل قواعد الإشتباك، تتبدّل متغيّرات منظومة الردع، كما يتبدّل الاطفائي.

لكن الثابت في هذه الأنماط أن الحلول كلّها مؤقتة، ولا حلول سياسيّة خاصة في قاموس حركة حماس. لنستنتج في كلّ مرحلة الصورة التالية: بعد كل حلّ مؤقّت مع حماس، تنطلق إسرائيل بعدها وترسُم لنفسها إستراتيجيّة قوّة إقليميّة كبرى وتتصرّف على هذا الأساس بنرجسيّة مُضخمة. لكن، فجأة، يعيدها أوّل صاروخ من غزّة إلى واقعها المحلّي، المرير والهشّ، وهكذا دواليك كما أسطورة سيزيف رمز العذاب الأبديّ. فاجأت حركة حماس إسرائيل في هذه الجولة على مستويين: الأوّل، عندما إستعملت الحركة صواريخ بعيدة المدى (120 كلم)؛ الثاني، هو في هدف هذه الصواريخ، أي القدس. يُضيف البعض مستوى ثالثاً هو لماذا صعّدت حماس الى هذه الدرجة؟ تأخذنا هذه المفاجآت إلى الإعتقاد أن إسرائيل ومنظوماتها الأمنيّة والعسكريّة قد فشلت إستخباراتيّاً وفي كل الأبعاد. فشلت في قراءة قدرات حماس الصاروخيّة؛ فشلت في قراءة أهداف حماس، وهي ستعاني في كيفيّة الردّ، وحتى في تحديد الأهداف من أيّة عملية عسكريّة قد تحصل، ضمناً القدرة على قياس النجاح، مع العلم أن نجاح فريق ما، يتطلّب إعتراف الآخر به – Recognition. أين تكمن معضلة إسرائيل حالياً تجاه غزّة؟ عند التحليل الجيوسياسي لمعرفة سلوكيّات العدو في واقع وظرف محدّدين، يرتكز الخبراء إلى التقييدات ـ Constraints – التي تمنع العدو من تحقيق أولوياته، وذلك بدل التركيز على ما يتمنّاه هذا العدو. فهل تتمنّى إسرائيل تدمير حماس؟ الجواب نعم. لكن هل هي قادرة؟ ربما نعم، لكن بكلفة عالية لا تتحمّلها إسرائيل.. اللهم إلا إذا أرادت إستعمال سلاح نووي تكتيّ وهي تملكه. لكن هل من المسموح إستعمال النوويّ؟ كلا، بالطبع. عندما تتصرّف إسرائيل اليوم تجاه غزّة، إنما تأخذ في الإعتبار جبهة الشمال حيث حزب الله، الذي يراقب، يساعد سرّاً، ويأخذ الدروس والعبر من كلّ ما يجري. فاذا لم تستطع إسرائيل مع منظومتها الدفاعيّة المتطوّرة التعامل مع عدد محدود من الصواريخ في ترسانة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فكيف ستتعامل مع 150 ألف صاروخ بحوزة حزب الله، ضمناً الدقيق منها؟ بكلام آخر، تُظهّر صواريخ حماس هشاشة القدرات الإسرائيليّة، وتفضح كل المناورات العسكريّة التي تجريها على الحدود الشماليّة، وكأنها جزء من الخداع الاستراتيجيّ – Deception – على غرار ما قاله صان تسو:”كل الحروب ترتكز على الخداع”. سأل موشي دايان مرةً معلّمه ديفيد بن غوريون:”متى تسقط إسرائيل”؟ أجابه العجوز:”عندما تخسر أوّل حرب”. هذه معادلة تترافق مع المعضلات الثلاث المذكورة أعلاه، الجغرافيا، الطوبوغرافيا والديموغرافيا. لذلك على إسرائيل أن تتصرّف مثل القرش الأبيض: كي يستمرّ ويعيش.. عليه أن يتحرّك دائماً. من هنا المبدأ الاسرائيلي الذي يقول “بالحرب بين الحروب” – War Between Wars. ففي حالة غزّة اليوم، تحاول إسرائيل إسترداد منظومة الردع على أسس جديدة، حتى لو كان الردع مزدوجاً. بكلام آخر، المنظومة الجديدة ستخدم كلّاً من حماس وإسرائيل، لأنهما اللاعبان الأساسيّان اللذان يملكان وسائل التغيير ـ عبر الحرب والتصعيد بالطبع. لكن على المنظومة الردعيّة الجديدة أن تُرضي بالحد الأدنى الفريقين – تجاه جمهورهما بالحدّ الأدنى لتبرير سبب التصعيد. لأن ما قامت به حركة حماس فاجأ إسرائيل بشكل كبير، فلا بدّ من الرد بالتوازي. لكن بسبب التقييدات التي تحدّثنا عنها أعلاه، يجب أن يكون الردّ الإسرائيلي ضمن المواصفات التالية: عمل عسكري ليس كبيراً ليقلب كلّ الأوضاع ـ إجتياح القطاع مثلاً. لكنه في الوقت نفسه ليس صغيراً وبشكل تصل معه الرسالة الردعيّة الجديدة لحركة حماس. بذلك يكون الأفرقاء في وضع (رابح ـ رابح) ـ Win-Win Situation. يندرج الحشد حول حدود القطاع في هذا السياق.

180 بوست

Exit mobile version