عودة “داعش”.. استراتيجية بايدن للبقاء في سوريا والعراق
د . علي مطر
شكّل ظهور تنظيم “داعش” في العراق الباب الكبير لإعادة تموضع وزيادة قوات الاحتلال الأميركي في بلد عانى في مواجهة إرهاب كانت واشنطن سبباً أساسياً في صعوده، خاصةً بعد أن انسحبت من العراق من دون أن تبني عراقاً مستقراً، ومن ثم شكل فرصة كبيرة لدخول القوات الأميركية إلى سوريا.
لقد استفادت الإدارة الأميركية أيّما استفادة من تنظيم “داعش”، فهذا التّنظيم شكّل أداةً “لخدمة مصالح واشنطن، التّي تسعى منذ تسعينيات القرن الماضي لتقسيم العراق والسّيطرة عليه، وهذه السّياسة سهّلها تنظيم “داعش” الذّي هو عبارةٌ عن الأداة الأهمّ في تنفيذ أجندة الولايات المتّحدة الأميركيّة”. وتؤكّد دراساتٌ غربيةٌ أنّ “داعش” صنيعة المخابرات الأميركيّة، وأنّ أجندة واشنطن لمكافحة الإرهاب في العراق وسوريا تتمثّل في دعم الإرهابيّين.
لا شكّ أنّ تنظيم “داعش” لم يأتِ من فراغ، ولم يبنِ دولته دون مقوّماتٍ ضروريّةٍ بالنسبة له كتنظيمٍ مسلّحٍ، يحتاج إلى وجود عناصر وسلاحٍ ونظريّاتٍ للقتال. لقد وضعت اللّبنات الأولى لنشوء هذه التّنظيمات في أفغانستان، بدعمٍ أميركيٍّ لمحاربة الاتّحاد السّوفياتيّ. وقد أشارت وزيرة الخارجيّة الأميركية السابقة هيلاري كلينتون إلى هذا الأمر، معتبرةً أنّ بلادها تقف خلف نشوء “داعش” ولو بطريقةٍ غير مباشرةٍ، فـ “واشنطن” هي التّي دعمت هؤلاء في أفغانستان لمحاربة الاتّحاد السّوفياتيّ.
وأعلن الرئيس الأميركي السابق المعرّض للمحاكمة حاليا دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية، أنّ الرّئيس الأميركيّ السّابق باراك أوباما هو مؤسّس “داعش”، مضيفاً أنّ “التّنظيم يُكنّ له الاحترام”. كذلك قال “ديفيد كيلكولن” ـ الّذي كان مُستشاراً سابقاً لكلٍّ من الجنرال “ديفيد بيترايوس” ووزيرة الخارجية السّابقة “كوندوليزا رايس” ـ في تصريحٍ له في آذار/ مارس 2011، “علينا أن ندرك أنّ الكثير من المشاكل هي من صُنعنا، ولا يمكن أن نُنكر أنّ “داعش” لم يكن ليوجد لو لم نكن قد غزونا العراق.”
أولاً: عودة “داعش” في ظل إدارة بايدن
مع تسلم الرئيس الديموقراطي جو بايدن الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، بدأ الحديث مجدداً عن عودة تنظيم “داعش” للعمل في سوريا والعراق، وهو ما تزامن مع عمليات عدة للتنظيم في البلدين، على وقع تسلم بايدن مقاليد الحكم في البيت الأبيض. الهجمات شبه اليومية التي يشنها التنظيم في العراق وسوريا تطرح بإلحاح سؤالاً كان يبدو لكثير من المراقبين أن تطورات الأحداث قد تجاوزته: هل عاد داعش إلى الحياة؟ ولماذا أرتفعت وتيرة العمليات مع تغير الإدارة الأميركية؟
وبدأت تتصاعد عودة التنظيم إلى العمل مجدداً، ففي سوريا، استقدمت قوات التحالف الدولي، الذي تقودُه الولايات المتحدة، تعزيزات جديدة إلى قاعدتها العسكرية في تل بيدر، شمالي الحسكة، وسط استمرار التحالف وقوات سوريا الديموقراطية (قسد) بتنفيذ العملية العسكرية الأخيرة بمناطق شرقي سوريا، ضد التنظيم. من ناحيته، حذّر تقرير لموقع “بزنس إنسايدر” من عودة التنظيم إلى العراق، مشيراً إلى أنه حقّق مكاسب في الفترة الماضية، رغم إعلان هزيمته في 2017. كثّف التنظيم عملياته في المناطق الريفية منذ النصف الثاني من عام 2019، وتشير البيانات إلى أنه ينقل مقاتليه أصحاب المهارات إلى المنطقة من سوريا.
إذا كان 2019 هو عام الإعلان عن القضاء على تنظيم “داعش” في سوريا، بعد خسارته معقله الأخير شرقي سوريا في بلدة الباغوز في ريف دير الزور، فإن العام 2020 شهد عودة نشاط التنظيم الإرهابي وخلاياه المتفرقة، كما اعتمد “داعش” على خلايا له لتنفيذ عمليات أيضاً في منطقة شرقي نهر الفرات ضد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) ومتعاونين معها في ريف دير الزور الشرقي، إضافة إلى عمليات في مناطق سيطرة المعارضة السورية. وفيما اعتمد “داعش” على ما يُعرف بـ “الذئاب المنفردة” لتنفيذ عمليات في سورية، مع انتشاره على نحو 4000 كيلومتر مربع، مستغلاً انتشاره في مناطق غير مأهولة وطبيعة البادية، وتكيّفه مع المستجدات، مع استغلال التناقضات بين أطراف الصراع المختلفة، فإن الوضع على الجانب الآخر من الحدود، في الأراضي العراقية كان مختلفاً، وهو يعود بشكل أقوى في عام 2021 في ظل إدارة أميركية جديدة تسعى لتثبيت تواجدها في سوريا والعراق.
ووفق تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية “توفر هذه الأراضي الوعرة لمتشددي داعش الحماية الطبيعية، ما يسمح لهم بالاختفاء خلال النهار، والتحرّك ليلاً ضمن مجموعات صغيرة، سيراً على الأقدام أو بواسطة دراجات نارية (..). من مخابئهم هذه، اقتحموا المناطق الريفية واختطفوا السكان واغتالوا مسؤولي الدولة”.
مثلثات الموت
يعمل التنظيم في العراق بطريقة لا مركزية، في خمس مقاطعات: محافظة الأنبار، وديالى، وكركوك، ونينوى، وبغداد، وفي مقاطعة تشمل جنوب البلاد بكامله. ويترأس كل منطقة “مسؤول” يرافقه أحياناً قائد عسكري”. ويشدّد التقرير على أن ما يسميه العراقيون “مثلثات الموت” قد عادت بالفعل، وهي حاليا أربعة، يحتوي كل منها على ما بين 350 و400 مقاتل.
وفي منتصف شهر ايار/ مايو 2020 تناقلت وسائل الاعلام العالمية اخبارا وتسجيلات مرئية حول هروب عدد كبير من مقاتلي تنظيم “داعش” المحتجزين في سجن الهول بريف الحسكة الشرقي الذي تشرف عليه قوات سوريا الديمقراطية. وهي عملية لم تكن لتتم بدون مساندة خارجية فاعلة ومؤثرة، وهو ما يعني أن تنظيم داعش ما زال موجودا وقادرًا على الحاق الأذى بالناس.
ثانياً: تحليلات أمريكية ـ غربية عن عودة “داعش” الى سوريا والمنطقة
يقول انطوني كوردزمان في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بحسب ما ينقل مركز الاتحاد للأبحاث أن هناك مخاطر جسيمة في الادعاءات حول القدرة على هزيمة الإرهاب بشكل عام، و”داعش” بشكل خاص. إن أحد أهم القيود على الطريقة التي خاضت بها كل من الإدارتين الديمقراطية والجمهورية “الحرب” على الإرهاب هو أنها تعاملت معها إلى حد كبير على أنها كفاح عسكري ضد حركات إرهابية فردية، وليس كحملة أوسع للتعامل مع مجموعة من التهديدات التي لا يمكن هزيمتها دون نجاحات كبيرة ضد مجموعة واسعة من الحركات المتغيرة باستمرار وبدون جهود كبيرة للحد من أسباب الإرهاب.
بدوره يذكر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في مقال له إنه بعد سقوط تنظيم داعش في آذار/ مارس الماضي 2020، وانتهاء سيطرته على الأرض، ظل مخيم الهول في شمال سوريا القلب النابض للتنظيم. وقد منح الموقع الاستراتيجي المنعزل للمخيم، والذي يطل من المناطق الحدودية النائية، تنظيم “داعش” مساحة جيدة لنشر الأفكار المتطرفة بين العشائر العربية القاطنة في تلك المنطقة. بالنظر إلى موقعه، أصبح مخيم الهول نقطة تجمّع لمقاتلي داعش الذين تم أسرهم خلال المعارك مع التنظيم.
ويقول المعهد إنه في أعقاب انتشار “كورونا” وانحسار القوات الأمريكية، انكشفت الفجوات الأمنية، مما سمح لـ”داعش” بالتحرك بحرية أكبر، وإجراء عمليات هروب من السجون، وتنفيذ هجمات أكثر تطوراً، وتهريب المقاتلين عبر الحدود.
وقد أشار مجموعة من الكتّاب في Home Land Security Today US في مقال لهم أن “تنظيم “داعش” تحول إلى شبكة سرية، في كل من العراق وسوريا، بينما لا يزال يمثل أيضًا تهديدًا عالميًا بقيادة مركزية، وهو أمر يمثل إشكالية أيضًا”.
كما حذر الجنرال كينيث ماكنزي جونيور، قائد القيادة المركزية الأمريكية، في حوار في معهد السلام الأمريكي في 12 أغسطس/اب 2020 من أن “داعش” يعمل “بحرية أكبر” غرب نهر الفرات وفي صحراء البادية الوسطى، وهي منطقة لا تسيطر عليها الولايات المتحدة أو القوات المحلية الشريكة لها. وقال إنه “بدون ضغط مستمر” يمكن لداعش استعادة السيطرة على الأراضي في سوريا والعراق المجاور “في فترة زمنية قصيرة نسبيًا”.
وأضاف “أعدنا توجيهنا في تشرين الأول/أكتوبر الماضي إلى ما نسميه “المنطقة الأمنية في شرق سوريا”، وهي حدود تمتد على طول نهر الفرات، في منتصف الطريق شمالًا وتتقاطع مع الشرق. هذا ما نحن فيه. هذا هو المكان الذي نعمل فيه مع شركائنا في قوات سوريا الديمقراطية ولدينا مهمة تكميلية لمساعدتهم في الدفاع عن حقول النفط الموجودة في شرق سوريا، مما يتيح لهم الحصول على دخل يمكنهم بعد ذلك استخدامه في ملاحقة جهود مكافحة داعش”.
لقد شكّل توسّع “داعش” في العراق فرصةً كبيرة، أمام الإدارة الأميركيّة لتوسيع نفوذها العسّكريّ فيه، تحت غطاء التّحالف الدّوليّ، كما استفادت واشنطن من الربط بين الحدود العراقيّة والحدود السّوريّة عبر شرق الفرات وانتشار قوّاتها في هذه المنطقة الاستراتيجيّة التّي تربط بين البلدين، وتمنع من إعادة التقاء الجيشين السّوريّ والعراقيّ والقوّات الحليفة لهما، فضلاً عن أن عين واشنطن على آبار النّفط العراقيّة والسورية. وعليه يمكن القول، إنّ التّنظيم شكّل أداةً لخدمة مصالح واشنطن في سوريا والعراق، وهو ما سيشكل حجة رئيسية لإدارة بايدين للبقاء في المنطقة.