مقالات مختارة

عن كوكب نديم الجميل

غسان سعود | كاتب سياسي لبناني

بعد تراكُم المواقف لما كان يُعرف بقوى ولقاء وشخصيات “14 آذار” عن “الاحتلال الإيراني” للبنان، اختصرت تغريدة النائب الكتائبيّ المستقيل، نديم بشير الجميل، الكثير، بقوله إن عنوان المعركة الانتخابية المقبلة الأول والأهم هو: نريد “لبنان الإيراني”، أم “لبنان السيد الحر والديمقراطي”؟ أما ردود الفعل فتقتصر على المقارنة بين “الهيمنة الإيرانية” و”الهيمنة الأميركية” على جميع مفاصل الإدارة والقضاء والأمن والمال والاقتصاد، بحيث تبدو الصورة واضحة.

ومع ذلك، فإن خطاب نديم الجميل وأصدقائه يُفترض أن يكون مناسبة للانقضاض، سياسياً وإعلامياً، على هؤلاء، وفضحهم وكشف الهوّة الساحقة التي تفصل بين أجندتهم السياسية ومصالح المواطنين. ففي عالم الكتائبيّ نديم الجميل وأصدقائه، من “قوات لبنانية” وثوار وأغلبية المجتمع المدني، لا يوجد ائتلاف نفطي التزم التوجيهات الأميركية بشأن التوقف الفوريّ عن التنقيب عن الغاز من أجل إغراق اللبنانيين في الفقر، وإلزامهم بالخضوع لشروط صندوق النقد المُذلة للمواطنين. ولا يوجد قطاع مصرفيّ (تتلقى جمعيته العامة الأوامر المباشِرة من الإدارة الأميركية) يرفض إعطاء الناس مستحقاتهم، ولا توجد أزمة كهرباء بسبب رفض حلفاء الولايات المتحدة وأزلامها في لبنان بناءَ معامل لإنتاج الكهرباء، في موازاة عرقلتهم استجرار الكهرباء من مصر أكثر من عشر سنوات. ولا توجد أزمة معيشية ساحقة، وأزمة فرص عمل، وأزمة في سعر صرف العملة الوطنية، وغيرها.

في كوكب نديم الجميل وأصدقائه، الأوضاع بألف خير، وما على الناخبين سوى التفكير في كيفية هزيمة “الاحتلال الإيراني” غير المرئي، في معركة وهمية أخرى من معارك هذا الفريق السياسي، الذي لا تُطاق خِفَّتُه. فهم لا يتطلّعون إلى إلزام المصارف (اللبنانية الأميركية) مثلاً بإعادة أموال المواطنين إلى المواطنين، أو إلزام شركات النفط بتنفيذ العَقد الخاص بالتنقيب عن النفط، أو تغريمها وتكليف غيرها (كالشركات الإيرانية مثلاً) التنقيبَ عن النفط، ولا يريدون حلَّ مشاكل الناس المعيشية، أو إيجاد حلول للكهرباء والمياه والصرف الصحي والاستشفاء والتعليم. لا شيء من هذا كله مطروح. كل هؤلاء الأعداء المرئيين، والذين ينهشون عظام اللبنانيين بعد أن أكلوا لحمهم وشربوا دماءهم، لا يستحقّون أيّ إشارة أو التفاتة، وإنما المهم هو عراضات إعلامية – سياسية تُرضي ممولهم. فبدلاً من أن يكون التدقيق الجنائي في جميع الإدارات هو عنوان المعركة الانتخابية المقبلة، من أجل فضح الفاسدين والمُهدِرين والسارقين ومحاسبتهم (كما كان الناس يأملون في بدايات أحداث 17 تشرين الأول/أكتوبر)، يضع نديم وأصدقاؤه عنواناً غرائزياً وهمياً فارغاً آخر. بدلاً من أن يكون عنوان المعركة تصحيحَ السياسات المالية والاقتصادية التي أوصلت إلى حرمان الناس من ودائعهم، لا يُعير نديم الجميل هؤلاء الناس أيَّ اهتمام، بل يذهب أبعدَ في الزَّجِّ بهم في معركة سياسية جديدة، لا يمكنه أن يصارح الناس بتحديد واضح لماهيتها: أين تبدأ؟ وأين تنتهي؟ وما هي معايير الربح والخسارة فيها؟

هكذا يُعفي الكتائبيّ نديم الجميل وأصدقاؤه في “القوات اللبنانية” وأغلبية المجتمع المدني، ومَن يصفون أنفسهم بـ”الثوار”، أنفسَهم من البحث عن حلول واقعية ومنطقية لمشاكل الناس الحقيقية. وهي ليست المرة الأولى طبعاً التي يجنح فيها هؤلاء نحو عناوين كاذبة كهذه، بعيدة كلَّ البعد عن هموم الناس ومصالحهم الحقيقية. فبُعَيد انسحاب الجيش السوري واستخباراته من لبنان، قرّر هؤلاء أنفسهم ان يجعلوا “الاحتلالَ السوري” عنواناً رئيساً لمعركتهم الانتخابية.

وبدلاً من أن يحوّلوا الانتخابات، بعد الخروج السوري من لبنان، إلى استفتاء على عناوين اقتصادية واجتماعية وإدارية وخيارات لتطوير نظام الحكم والإدارة العامة، والانطلاق في بناء الدولة، آثروا تضييع عشرين عاماً من أعمار اللبنانيين في صراع سياسي عبثيّ. وحتى حين حاول المواطنون، في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، كسرَ جميع القيود للمطالبة بالإصلاح وبناء الدولة، انقضّوا على تظاهراتهم العفوية، وحاصروها بأجندات الكاميرات، وساروا فيها نحو تصفية الحسابات السياسية مع التيار الوطني الحر وحزب الله.

هؤلاء، الذين لا يريدون إصلاحاً أو محاسبة أو دولة أو ودائع الناس أو مياهاً وكهرباء وصرفاً صحياً، يريدون من المواطنين، الذين يعانون ما يعانونه بسبب الحصار الأميركي والفساد المحميّ من الأميركيين، والذين لا يجدون طعاماً في برّاداتهم، أو كهرباء في منازلهم، أو بنزيناً في سياراتهم، أو أدوية، أن ينشغلوا عن هذا كله بمعركة عنوانها “لبنان الإيراني”، أو “لبنان السيد، الحر والديمقراطي”؟ “لبنان الإيراني”، أو “لبنان الذي تدير الولايات المتحدة قطاعه المصرفي على نحو يضمن حرمان الناس من ودائعهم”؟

“لبنان الإيراني”، بحسب نديم الجميل، أو “لبنان الذي تمنع الولايات المتحدة شركات النفط من استكمال عملها في بحره من أجل استخراج النفط”؟

“لبنان الإيراني”، بحسب نديم الجميل، أو “لبنان الذي تمنع الولايات المتحدة الدولة المصرية، طوالَ أكثر من عشر سنوات، من تنفيذ الاتفاقية مع لبنان من أجل تزويده بالكهرباء”؟

“لبنان الإيراني”، بحسب نديم الجميل، أو “لبنان الذي تدعم الولايات المتحدة تحقيقاته القضائية الاستنسابية، والتي تسيّس التحقيق، عبر رفضها الادعاءَ على أشرف ريفي والقضاة الذين أمروا بتوقيف الباخرة وإفراغ حمولتها على الرغم من معرفتهم بخطرها العارم”؟

“لبنان الإيراني”، بحسب نديم الجميل، أو “لبنان من دون قطاعات إنتاجية، ومن دون وظيفة اقتصادية، ومن دون قدرة على المنافسة السياحية، ومن دون مؤسسات رقابية، كما فعلت به جميع الحكومات المدعومة بقوة من الولايات المتحدة”؟

العنوان، الذي صنّفه الكتائبيّ نديم الجميل وأصدقاؤه في “القوات” والمجتمع المدني وما يوصف بـ”الثورة” “عنواناً أساسياً” للانتخابات النيابية المقبلة، يجب أن يكون كذلك فعلاً، ويفترض أن يفضح هؤلاء بصورة كاملة. يفترض تكرار التأكيد يومياً للمواطنين، آلافَ المرات، أن هؤلاء لا يحملون أي مشروع تغيير، أو خريطة طريق واقعية وواضحة للإنقاذ أو التغيير أو المحاسبة أو الإصلاح، وكل ما لديهم هو استثمار خاصّ في اتهام سياسي عبثي آخر.

لقد أضاعوا عقدين من عمر اللبنانيين في التحريض على الهيمنة السورية، بعد خروج سوريا من لبنان. وها هم يُعِدّون العدّة من أجل إضاعة عشرين عاماً أخرى من أعمار اللبنانيين في التحريض على الهيمنة الإيرانية، في ظل هيمنة أميركية استثنائية على كل صغيرة وكبيرة في البلد، مع الأخذ في الاعتبار أن المواطن، في العقدين الماضيين، كان قادراً على مجاراة هؤلاء، بحُكم وجود الحد الأدنى من متطلبات الحياة. كان كل شيء مؤمَّناً تقريباً لنسبة كبيرة من المواطنين، وكان يمكن لكثيرين من المواطنين أن يجاروا، في القليل من وقتهم الضائع، هؤلاء في خطابهم السياسيّ الفارغ من أي مضمون اقتصادي، أو مالي، أو اجتماعي، أو حتى سياسي. أمّا اليوم فالأحوال تغيّرت: قلة قليلة جداً من المواطنين يمكن أن تجاري بقايا “14 آذار القديمة” وقوى “14 آذار الجديدة” (من مجتمع مدني ومَن يصفون أنفسهم بـ”الثوار”) في طروحات عبثية كهذه، بعيدة كلَّ البُعد عن أولويات المواطنين وكل ما هو أساسي بالنسبة إليهم.

فليقاتلْ نديم الجميل النفوذ الإيراني. أمّا الناخب اللبناني فسيقاتل في صندوق الاقتراع من أجل استخراج الغاز، وتشريع بناء اتحادات البلديات لمعامل الكهرباء، سواء الإيرانية أو الماليزية، أو استجرار الكهرباء عبر سوريا، واستعادة أمواله من المصارف، وتحصين التدقيق الجنائي من أجل فضح المرتكبين، واستعادة الأموال المنهوبة.

 

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى