عن حصار قيصر والعراة والفرصة الذهبية
علي كوثراني | كاتب وباحث لبناني
الحصار هو رهانٌ يائسٌ يقوم من خلاله المهيمن الناهب برفع كلفة المقاومة حيث رفع الأحرار عليه كلفة هيمنته، وذلك بعد أن فشل رهانه على اقتلاعهم من بلادنا بالقوة الخشنة.
الحصار رهانٌ بلا أفقٍ أيضًا، فهو برفعه كلفة المقاومة على الأحرار، يرفع أيضًا كلفة عيش الجميع تحت هيمنته إلى حدودٍ لا تطاق، ويثبت لهم بالدليل والبرهان أن كلفة تحررهم الشامل تبقى أقل بما لا يقاس من كلفة عيشهم تحت هيمنته.
الحصار، وبكل صراحةٍ، لم يسلبنا شيئًا، فكل ما لنا هو إما مسلوبٌ أصلاً أو بحكم المسلوب ولا سيادة لنا عليه. ولعل من أبسط المفارقات هي أن تستجدي نواطير كياننا التابع فتات الفتات لكي تتنفس فقط، ونحن جميعًا في نفس الوقت عائمون على بحرٍ من الثروات لا نملك من قرار استثمارها شيئًا.
الحصار، وببساطةٍ شديدةٍ، عرَّانا جميعًا. عرَّانا بأن لا سيادة ولا قرار ولا اقتصاد ولا مؤسسات ولا أمن ولا دولة لنا. عرَّانا أمام أنفسنا أولاً وأمام شعوب العالم. عرَّانا فركز أصحابه بين اثنتين، خضوعٌ مقابل ما لا يسترنا، وعريٌ شاملٌ حتى أجلٍ غير مسمى. ولكنهم بذلك قد فتحوا المجال لنا أيضًا نحو أمرٍ ثالثٍ: التحرر من هيمنتهم ونهبهم.
قد يصعب على الأغلبية في بلادنا المقسمة إلى كياناتٍ مستتبعةٍ أن تترك أفكارها وعاداتها وطبيعة معاشها التي لم تخترها لنفسها، بل صاغتها لها القوى التي هيمنت عليها ونهبتها، ولكن الحصار يجعل الأمر أسهل عليها يومًا بعد يوم.
وليكن معلومًا أن المهيمن الناهب يعي تبعات حصاره ومخاطره، وأنه لم يقم به غفلةً أو عن سوء تقديرٍ، وإنما بعد أن تقطَّعت به السبل إذ قام بوجهه منافسون أقوياء في العالم. منافسون شغلهم الشاغل تقطيع أذرعه عنهم وعن مجالاتهم الحيوية، لأن هيمنته ونهبه، وببساطةٍ أيضًا، تتناقضان مع سعيهم إلى الحياة والتقدم.
ولذلك هو يدير حصاره علينا بحذرٍ شديدٍ ويقيس خطواته بميزان الذهب، فخطوته إن أتت شديدة الثقل ترتد إلى نحر هيمنته بسرعةٍ، وإن كانت أخف مما يجب يخسر من جرائها وقتًا ثمينًا.
لكن العطار وإن نجح في إخفاء الضعف وكسب بعض الوقت فهو أعجز من أن يصلح ما أفسده الدهر، وإن حال شعوبٍ مضطهدةٍ منهوبةٍ لا شيء لديها تخسره، إلا قيدها، يبقى أفضل من حال إمبراطوريةٍ يداهمها الوقت وصارت أغلب أيامها من الماضي.
ومع ذلك، فإن هذه اللحظة تاريخيةٌ وشديدةُ الحساسية علينا أيضًا، وإن الفرصة سانحةٌ أمامنا الآن، والآن بالذات قبل حسم الصراع في العالم بين قيصر الغرب وأذياله من جهةٍ وبين الدول التي أمسكت بقدرها وصعدت بوجهه وبذلك أمسكت بقدره من جهةٍ أخرى.
لا مصلحة لنا كعربٍ بأن يحسم الصراع ونحن كما نحن ساحاتٌ وآبارُ ومناجمُ وأسواقُ مهيمنٌ عليها ومنهوبةٌ، تبقى موجودةً كموضوع صراعٍ في عالمٍ غير مستقرٍ إلى أن ينتظم، ثم تؤول بالإرث من إمبراطوريةٍ مهزومةٍ إلى أخرى منتصرة.
الدولة العربية الصاعدة حاجةٌ موضوعيةٌ للعرب لضمان معاشهم وأمنهم، لا سيما في مرحلةٍ ضعفت فيها قوى الهيمنة والنهب وتزايدت حاجاتها بشكلٍ صارت أعجز من أن تترك ما يكفي لهم ليستمروا ولو كعبيد، ومقابل ماذا؟ سيولٌ من الدماء العربية لا تجف من جراء مشاريع تأبيد الهيمنة والنهب.
الدولة العربية الصاعدة الآن حاجةٌ لقوى الصعود في الإقليم والعالم أيضًا، إن لبناء استقرارٍ مستدامٍ في الإقليم قائمٍ على التكامل والتعاون على أسس المصالح المشتركة في الاقتصاد ورد العدوان وقطع إيدي الطامعين، أو في صراعها مع قيصر لقطع أذرع هيمنته ونهبه عن العالم بغية إضعافه ورد كيده عنها.
الفرصة الآن ذهبيةٌ، والمصلحة مشتركةٌ، والحلفاء الموضوعيون كثرٌ، شرط أن نتفاءل ونخشوشن ونقف ونملأ مكاننا.