علي كوثراني | كاتب لبناني
ما إن بث تحالف قوى العدوان على اليمن وباقي العرب ذاك المقطع الذي احتوى دليله الدامغ على “تورُّط” المقاومة في لبنان، في “حرب اليمن”، حتى تناقله أنصار المقاومة في لبنان على نطاقٍ أوسع مما كان يحلم به التحالف نفسه، ولكن على سبيل السخرية من المقطع ومن التحالف!
المقطع، بالمختصر، هو لشخصٍ يبدو أنه سوريٌّ، يحاول تقليد لهجةٍ لبنانيةٍ ما، غير لهجتي أهل المقاومة الأساسيتين (جبل عامل، والبقاع)، ومع ذلك يفشل فشلًا ذريعًا، ولبنان هو جزءٌ من ساحل الشام كما تعلمون، لا ساحل المكسيك، فلا يفترض بالأمر أن يكون صعبًا إلى هذه الدرجة، ولا نعلم هنا أصلًا الحكمة من وراء عدم الإتيان بشخصٍ لبنانيٍّ من بيئة المقاومة، ومرتزقتهم كثرٌ أينما كان.
ومع أنه فشل بتقليد اللهجة، إلا أنه نجح بتنغيم الكلمات كابن ثمان سنواتٍ يحاول استظهار قصيدةٍ في الفصل أمام أستاذه، وأعطى الأوامر ببلاهةٍ لوجهٍ غريبٍ يفترض أنه لقائدٍ جسورٍ ذي وجهٍ من ألمع الوجوه في اليمن وبين أنصار التحرر عند العرب.
لم يكن ينقص كاريكاتورية المشهد إلا أن يُقدِّم الناطق باسم التحالف هذا المقطع بوجهٍ عابسٍ ولهجةٍ حادةٍ، وأن يبني الآثار السياسية الصارمة عليه، وأن ينشغل إعلام التحالف بالشرح والتفكيك والتحليل بكلِّ جديةٍ، وهو بالضبط ما حصل.
ولكن المشهد، وإن كان في جزئيتي فبركة وطرح هذا المقطع كاريكاتوريًّا، إلا أنه بالعموم واقعيٌّ جدًّا وشديد الخطورة، بمعنى أنه يأتي في سياق حصارٍ خانقٍ وهجمةٍ شرسةٍ ليؤدي دوره كتمهيدٍ وتبريرٍ لخطواتٍ عدوانيةٍ قادمةٍ ستُتخذ ضد لبنان وأهله، وستؤيدها دولٌ، مهما كان المقطع نفسه سخيفًا وتافهًا؛ ولكن هذا ليس في صلب موضوع هذا المقال.
إن أكثر ما استوقفني، هو هذه الدرجة من التفاهة والرداءة والتسرع التي تنضح به عملية فبركة المقطع. من البديهي أن لا يكون صعبًا على من يملك الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام العربية ومن فيها وحولها، وكلَّ البنية التحتية للإنتاج الفني في العالم العربي تقريبًا، أن يفبرك مقطعًا قصيرًا يبدو على الأقل مقنعًا ولو لبعض الوقت قبل أن يُكشف، ولذلك يُلحُّ السؤال: لماذا كل هذه “الفَشْكَلة”؟!
رمى تحالف العدوان من المقطع الذي بثه إلى أمرين. أولهما القول بأن المقاومة في لبنان “متورطةٌ” في “حرب اليمن”، لأسبابٍ سياسيةٍ شرحتها أعلاه، مع ما يتضمنه ذلك من لعبٍ على المصطلحات لتشويه الوعي العربي. أما الثاني، فهو تصوير المقاومة في اليمن كتابعٍ يتلقى الأوامر من الخارج، لتقزيمها وحرمانها معنويًّا من إنجازاتها من جهةٍ والطعن بوطنيتها من جهةٍ أخرى، وهو أسلوبٌ قديمٌ وممجوجٌ لطالما استُعمل ضد المقاومة في لبنان نفسها وسائر المقاومات وحركات التحرر في العالم.
التهمة الأولى لا تُرَد، وهي من أبسط مقتضيات المصلحة والمنطق السليم، وليست ورطةً، بل أقلُّ الواجب، فالحرب الدائرة في اليمن ليست حربًا بلا عنوان، بل هي عدوانٌ على أهلنا فيه، ورد العدوان وتحرير اليمن والجزيرة هي حرب أنصار التحرر في بلاد العرب كلها، وإنجازاتها وانتصاراتها مكسبٌ وفخرٌ لهم جميعًا.
أما الثانية، فهي التي تعكس بدقةٍ الرعب الذي قذفه أحرار اليمن في نفوس آل سعود ومن معهم، وتظهر بشكلٍ جليٍّ ارتباكهم المتأتي من عجزهم عن فهم هذه الظاهرة وعن إنتاج حلولٍ فيما يخص كيفية التعامل معها، وهنا صلب الموضوع.
مَرَدُّ ذلك، برأيي، أن الطرفان يتكلمان لغتين مختلفين تمامًا.لغة الهيمنة من جهةٍ، ولغة التحرر من جهةٍ مقابلة. لغةٌ تنطق بمصالح المركز الإمبريالي الغربي ومرتكزات هيمنته الأربعة في منطقتنا: التجزأة الجغرافيَّة، ونواطير الكيانات، واقتصاد الريع، والمخفر الإمبريالي الذي ثُبِّت على أرض فلسطين بالذات لكونها نقطة اتصال مشرق العرب بجزيرتهم ومغربهم بغية حراسة هذه المنظومة في منطقتنا. ولغةٌ أخرى تنطق بمصالح المتضررين من هذا الوضع القائم.
فكيف يفهم عبدٌ ذليلٌ، استمراره ووجوده رهن إشارة أسياده، لا تشرق عليه شمسٌ إن قصَّر في تحويل ثروات العرب الهائلة نحو اقتصاد المركز الناهب، أن ثمة أحرارًا تجرؤا وتمردوا عليه وعلى أسياده ووقفوا لهم بالمرصاد، ولم يختفوا من الوجود بعد؟
وكيف يفهم من يقيس القوة بامتلاك أحدث الأسلحة، التي يدفع صاغرًا لأسياده أضعاف ثمنها الحقيقي، أن قليلًا من المستضعفين الحفاة قد قرروا مواجهته ومواجهة أسياده بأسلحةٍ عمر بعضها ٧٠ سنةٍ، ولم يُكسَروا بعد؟
وكيف يفهم من يظن أن الاقتصاد هو بيعُ ما تحت الأرض وفوقها، ما يملكه كل العرب، بأبخس الأثمان، لأجل استيراد كل ما يستهلكه هو وحده بداعٍ وبغير داع، وبأبهظ الأثمان، أن ثمة من تعلَّم أن يعرف قيمة الأشياء وأن يوظفها – على قلتها – لخدمة أصحابها، وحيث يجب، ليُنتج، لا بل وأصبحت الأسلحة الكاسرة للتوازن مما ينتجه؟
هل من الممكن أن يفهم هؤلاء العبيد ومرتزقتهم، في قيادة التحالف والخارجية والإعلام وأماكن أخرى، أن مثل هذه السخافات، وإن حُبِكَت بشكلٍ جيدٍ، بعكس المسخرة التي عرضوها على الملأ، لن تقلل من شأن أحرار اليمن، بل تقلل من شأنهم هم الفاشلين العاجزين؟
الجواب، وببساطةٍ، لن يفهم آل سعود وغيرهم من النواطير أنهم غير مُصَممين أصلًا للقيام بدور المخفر الإمبريالي وحروبه، كما لم يفهم المخفر أن مقوماته وموازين القوى لا تسمح له بعد تآكل قوة الردع فيه أن يحجز لنفسه دور المركز الاقتصادي للمنطقة وأن يوكل دور المخفر إلى النواطير الذين احترفوا تبديد ثروات العرب في جيوب الناهبين، كما لم يفهم المركز الناهب قبلهم أن مرتكزات هيمنته في منطقتنا وفي العالم أجمع تتهاوى وأن نهبه للكوكب حتمًا سينتهي لأنه يتناقض بشكلٍ تناحريٍّ مع أبسط حاجات أهل الكوكب.
نعم، لن يفهموا أن قضية العرب مازالت واحدةً، وأن صراعهم واحدٌ ضد المركز الإمبريالي الناهب لهدم مرتكزات هيمنته في منطقتنا بالتعاون مع قوى التحرر والدول الصاعدة في العالم.
فكيف يفهمون أن أحرار اليمن إن نطقوا، فهُم ينطقون بحناجر وقلوب كل الأحرار في بلاد العرب، وأنهم إن فعلوا، فهُم، بالضرورة، يفعلون باسمهم جميعًا ولأجلهم، وأن هذا الأمر هو من أبسط تجليات وحدة القضية العربية ووحدة الصراع، وأن الأمر ذاته ينطبق بالمِثل على كافة حركات المقاومة والتحرر العربية من المشرق إلى الصحراء الغربية؟
ولكن من لم يفهم أن موجة حصاره الخانق الذي يَضرب بها بلادنا الآن، لن تنجح بما فشلت به موجة ربيعه العربي ومن قبلها موجة غزوه المباشر، أي ترميم هيمنته على بلاد العرب، إنما هو لا يفهم لسببٍ وجيهٍ، هو أن في فهمه للأمر تسليمٌ بموت إمبراطوريته؛ وما ينطبق على المركز الإمبريالي ينطبق على نواطير هيمنته ومخفرها في بلادنا، الذين يستعصي الفهم عليهم لأنه أيضًا تسليمٌ بموت أدوارهم وكياناتهم المهترئة.
ويبقى سؤالٌ جوهريٌّ، أن كيف يفهم الثاني لغة الأول ويُحسن الإجابة عليها، بينما يعجز الأول عن فهم لغة الثاني ويرتبك كلما حَسُن جوابه؟
التحرر هو الرد التاريخي على الهيمنة، هو المناعة الطبيعية التي تتطور لترد المرض وتحمي النوع، بينما الهيمنة مهما تطورت، تبقى أعجز من أن تجيب عن حاجات من تهيمن عليهم بغية إبقائهم تحت هيمنتها، لا سيما وأن أعدادهم في ازديادٍ وأعداد سكان مركزها وضواحيه في تناقص… فلا بأس أن لا يفهموا، وهل رأيهم إلا فَنَد وجمعهم إلا بدد وأيامهم إلا عدد؟