محمود بري | كاتب وباحث سياسي
في زمن الأسئلة المُحرجة التي يتجنّب القوم طرحها، تنشغل الأوساط الحاكمة بما هي غارقة فيه من صفقات وتوافقات ونكايات ومنازعات، وينهمك المستشارون بتبادل المنافع على موائد المطاعم، بينما يواصل الناس غرقهم الخانق في وحول الوطن، فيتجاوز الوضع درجة الميؤوس منه، ويبدو أن لا خلاص إلا بطريقة واحدة وحيدة مبتدؤها تمرّد الغنم على اللحّام، الأمر الذي تقول الكتب والعلماء إنه غير جائز شرعاً.
المسيحيون يتقلّبون على جمر ندم يُطرّزونه بطمأنات “لا تُصرف في سوق الجمهور”، والمسلمون يُمسِّدون عداواتهم البينية بلقاءات تشاورية لتثبيت حيطان متاريسهم التاريخية. وحدها الزعامة الدرزية تتصرّف بمسؤولية الحفاظ على الجماعة، فتقف منفرجة الساقين، قدمٌ في الـ “نعم” وقدمٌ في الـ “لا”، مع تأدية بعض تمارين الرقص على الحبال كلما لزِم الأمر. والحال فهذه المجموعات المتكارهة التي تدور حول أوهامها، لا تشكّل أمة واحدة ولا يمكن لها أن تتشارك المصير. وهي أدركت بعد تجاربها، أنه يستحيل عليها إقامة دولة، بدليل أنها ومنذ الاستقلال الذي وصل بالحقيبة الديبلوماسية في الـ 43، ما برحت تُحاول ويحاولون، من دون أن تقوم لا دولة ولا قانون. وليعذرني جناب الجنرال غورو وقلمه الرصاص الذي رسم به على خريطة المنطقة، حدود ما أحب أن يجعله الجمهورية اللبنانية. فقد كان مخطئاً، وها نحن ندفع الثمن.
نعم. إن تجربتنا مع التاريخ الحديث والمعاصر تُثبت لمن يعوزه الدليل أن هذا اللبنان لم يركب يوماً… ولا يمكن أن “يركب”. والعلامات شتى يختصرها تاريخه منذ التوراة حتى حكومة دياب المستقيلة. وحتى في أفضل المراحل القديمة في تاريخه (أعني العصر الفينيقي) لم يكن هذا اللبنان بلداً حقيقياً واحداً موحّداً، بل كان بلداناً متعددة لكلٍ منها استقلالها الذاتي وتجارتها وملوكها. وقد أسماها التاريخ “ممالك” فحكى لنا عن مملكة صور ومملكة جبيل… وأرواد وصيدون ورأس شمرا وسواها مما حفظناه في الصفوف الابتدائية.
لذلك ومن أجل النجاة من مسلسل اللعنات الذي يمتطي رقبة هذا اللبنان المنحوس، ينبغي علينا أن نرجع إلى تلك المرحلة القديمة ونعتنق تلك الحالة: نصير ممالك مستقلة (مملكة جامع عبد الناصر ــ طريق الجديدة ــ المخيمات، مملكة المختارة وضواحيها حتى كوع الجاهلية، مملكة الشيفرولية ــ معراب ــ جلّ الديب، مملكة بربور ــ عين التينة (ليمتد)، مملكة بير العبد ــ حارة حريك ــ ، مملكة زغرتا-الزاوية وبحيرتها، مملكة خنّاق حمارو ــ التربيعة ــ نهر بوعلي… وهكذا نتفرغ للتجارة واستقبال السيّاح بدلاً من إطلاق اللُحى والمتاجرة بالبنزين.. وبتحرير فلسطين.
عندها نرتاح ونرتاح. نرتاح أولاً من قيل وقال القضايا الدونكيشوتية الخدّاعة التي أحرقت أيامنا وقضمت سنواتنا وأعمارنا فأنتجت، بفضل العدوّ الإسرائيلي الغاشم، قيادات وزعماء من المفترسين ينهبون كل ما يصلح للنهب. ونرتاح أيضاً لأنه لن يعود بإمكان شخص ما، أيّ شخص ومهما كان وضعه وزيّه على سلّم الشخوص والأزياء، أن يتحكّم حسب نسبة الكوليسترول في دمه، بكل أحيائنا ومناطقنا وثقافاتنا وطوائفنا وأدياننا، ويقودنا وبلدنا على مزاجه اليومي ومصالحه السياسية والمالية والنيرونية، ويُنصّب علينا من يختاره رئيساً أو وزيراً، ويُطلق علينا زبانية يعملون على استكمال نهبنا وإرهابنا وهم يرفعون شعارات “الرّيس” ذاتها من وزن التحرير والثورة والإصلاح والعدالة وفلسطين و…مسلمي الإيغور ومؤمني مالي ونيجيريا ــ بوكو حرام. ثم، وبإسم هذه القضايا الجاثمة مثل البوم على أغصان حياتنا اليابسة، يتكرّم الذين فوق، فيعطلون شركة الكهرباء المدنسة ويُديرون مولداتهم المنزّهة، ويتهموننا ويقمعوننا و يُلغوننا كلما استحلوا ذلك، كأننا “لا شيء يستدعي انحناؤك/ ذاك طوق الياسمين”… ، وكل من يعترض أو يحتج أو يُشاع أنه قطّب جبينه أو زمّ شفتيه علامة عدم الرضا، يُرمى بالحضر القومي ــ الإيماني ويُتّهم بخيانته للعبّاس بن فرناس والتآمر على السيدة زُبيدة حرم مولانا هارون الرشيد.
وعلى عكس ما يظنه كثيرون، فليس في كل ما سلف مبالغة أو افتئاتاً على التاريخ والحقيقة. فها هم، ضاعف الله سلطانهم، يختارون لنا شخصاً بعينه لرئاسة ما يحلو لهم تسميته “حكومة الإنقاذ”، ويحدث أن يكون هو ذاته الذي خاض مختلف حكومات الإنقاذ السابقة من دون أن ينقذ أحداً غير حساباته المصرفية. ويا للصدفة اللئيمة، فهو ذاته أيضاً الذي تصرّف بأموال مؤتمرات باريس الإنقاذية (1 و2 و3) فزرع لنا البلد كوسى وورق عريش مع مئات آلاف الوظائف التي لم يتحقق منها شيء البتّة. إلا أنه، والحق يُقال، نجح في تصنيع أثرياء حرب جدداً، وتثبيت أغنياء الحرب الأولين وتدعيم ثرواتهم، ثم طلع علينا باختراع غريب أسماه “الهندسات المالية” مثابة مكعبات من الإسمنت ربطوها بجسد البلد وألقوه في البحر… تماماً كما كانوا يفعلون مع معارضيهم، دمّرهم الله.
ولكي نضمن السعادة الأبدية، ليس علينا غير أن نقتنع بأن هذا “المختار” المتخصص بإفلاس كل ما يديره، شركاتٍ كان أو جريدة أو تلفزيونا أو… بلداً، هو وحده الجدير بأن نضع كلّ مائنا في غرباله، ونتكل على ” عبقريته ” لإنقاذ الوطن، وننكر بقوّة أنه ومُسوِّقوه في الغرب الإمبريالي المقيت، وفي الشرق الجاهلي المميت، لا علاقة لهم بتسويق زيوت المواشي ولا بغضب مملكة الخير والعطاء عليه.
لو عُدنا ممالك متعددة كما كنّا، فسنرتاح من كل ذلك، و”نُحطط” عن ظهورنا هذه القضايا الخنفشارية التي أضاعت وتُضيع أعمارنا سُدى. وأكثر من ذلك فربما نستعيد مهارات الجدود في “حلب” أصداف الـ “موريكس” من بحر صور (إن بقي منها شيء) وتصنيع الصباغ الأرجواني الذي سنجعله حسب مشيئتنا أخضر أو أصفر أو برتقالياً أو بذلك اللون الأهبل الذي لا أعرف إسماً له…، وقد نتمكن أيضاً من تسويق معجزة التعايش اللبنانية الفذّة، ومعها التبّولة التي سرقها إخواننا وأمموها، والمجدرة التي قدّمها لنا مسؤول المنظمة في باريس على أنها “طبق وطني فلسطيني”…
عندها يرتاح العالم ونرتاح.
وهذا أفضل بألف مرة مما نحن فيه من سعادة…!