غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد
تهيمن الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة على النظرة الشائعة للحدث الأفغاني ومساره، وتشي كتابات كثيرة بعضها رصين بشيوع حكم مسبق، ينظر إلى مستقبل أفغانستان بذاكرة ما كانت عليه طالبان قبل الغزو والاحتلال، ومن غير فهم نتائج وتأثيرات المعركة التي خاضتها وانتهت بدحر المحتلين. وقد رسمت على طريقتها مشهدا للهروب الأميركي، أحيا ذكريات الخروج المذلّ من فيتنام.
أولا: يشوب الكثير من المواقف الانطباعية والتقديرات المسبقة خلط غير بريء بين طالبان الأفغانية وجماعات القاعدة الإرهابية المعزولة، التي ثبت عمليا أنها كانت عرضة للتشغيل والتوظيف والاختراق على أوسع نطاق. وقد استعملها التدبير الأميركي الصهيوني الرجعي بمشتقات متعدّدة بصورة استثنائية في حرب تدمير سورية. وظهرت خلال العشرية الأخيرة على الأرض السورية والعراقية فصول توحّش ومجازر دموية من فعل داعش والنصرة سليلي القاعدة بتشكيلات ومسميات متعددة، وهذه الجماعات الإرهابية الدموية، التي يشغلها الغرب الاستعماري، ويستخدمها في خططه للتدمير والسيطرة والنهب، هي زمر قتل وإرهاب عميلة، تجنِّد بعض المنخلعين الشاردين والمضللين، وتغرقهم في مسار ارتزاقي بغلافها الإيديولوجي الخادع. بينما طالبان هي قوة سياسية اجتماعية منتمية إلى النسيج الأفغاني بخصائصه ومكوناته القبلية، وهذه الحركة تركزت في قبائل البشتون، ولم ينقل المراسلون والمحللون واقعة عن اجتيازها الحدّ القبلي إلى فئات اجتماعية أخرى في أفغانستان.
ثانيا: يفترض المنطق العلمي إجراء دراسة متأنية لتجربة طالبان في النسيج الاجتماعي الأفغاني ومسار تطوّرها السياسي والاجتماعي، بعدما خاضت لسنوات حرب تحرير ضد الاحتلال الأميركي، اكتسبت خلالها مزايا وخصائص تكوينية، عزّزت طابعها الشعبي، ووسّعت من حضورها وانتشارها في المجتمع الأفغاني، بعدما كانت في البدايات أقرب إلى جماعات نخبوية عقائدية منعزلة. وهذا الأمر له تأثير بديهي على المسار الفعلي للحركة، ويملي المنطق العلمي مراقبة تأثيرات التكيّف السياسي والعقائدي بالتفاعل مع الموقع والدور والعوامل الاقتصادية الاجتماعية المتعدّدة، التي يفرضها الانتقال إلى وضعية إدارة السلطة في بلاد شاسعة ضمن بيئة إقليمية دولية مركّبة ومتشابكة، ووسط تحديات وتهديدات ومشاكل متداخلة. وينبغي للمتابع الحصيف عدم استعجال الحكم المسبق والانطباعي، بل متابعة السيرورة التاريخية، وما تفضي إليه من تحولات ونتائج سياسية، أمام اضطرار الحركة لاجتراح حلول واقعية وعملية لمشاكل بلاد تحتاج إلى نسج ورعاية العديد من العلاقات والشراكات الإقليمية والدولية.
ثالثا: يفرض المنهج العلمي النقدي ارتقاب التطورات السياسية والاقتصادية، التي ستشهدها البلاد، وما سيحدث على صعيد شراكاتها الخارجية. فهل تقع في حضن الغرب الاستعماري مجددا، أم تبحث عن شراكات مع الشرق انطلاقا من جوراها الآسيوي مع الصين وايران وروسيا؟ وهذا أمر حاسم في رسم وجهة التطوّر الأفغاني، وفي نفي خزعبلات التفسير التآمري السخيف. ومن غير أي مبالغة نعتبر أن هذه التجربة جديرة بالمتابعة والفهم دون أفكار مسبقة. ومن الضروري الفصل بين سيرورة أفغانستان كدولة ومجتمع وحال الجماعات التكفيرية، التي تشكّلت على حواشي التجربة، وفي سجالها العقائدي من قلب العلب الأميركية الرجعية، ووُظّفت لحساب الخطط التدميرية الخبيثة في لعبة ارتزاق رخيصة وموحلة. فجماعات التكفير المخلّعة المهاجرة قابلة للتجنيد الإرتزاقي، وهي بنادق للبيع والإيجار بلا قضية أو انتماء غلافها العقائدي الزائف هو عدّة الشغل المبتذلة.
التجربة الأفغانية الجديدة بعد الاندحار الأميركي جديرة بالمعاينة والدراسة، وستحمل معها العديد من العبر. والعقل العلمي الحصيف لا ينبغي أن يستسهل أو يستعجل في مثل هذه المسائل، فيسقط في خطيئة الحكم المسبق. فلندع التجربة تنبئنا بالوقائع والعبر.