الدكتور حسن احمد حسن | باحث سوري مختص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية
تتراقص الكلمات عزة ونشوة وكرامة عندما تحاك حروفها، وتسبك دلالاتها في مختبر الوجدان، فتخرج مزدانة بأبهى حلة للحديث عمن يليق بهم الفخر، فعبور صهاريج المازوت الإيراني من بانياس السورية إلى لبنان الشقيق المقاوم لا يمكن اختزاله بلقطات فوتوغرافية غزت عالم السوشيال ميديا، ومقاطع فيديو اجتاحت وسائل الإعلام، وحجزت لنفسها مكان الصدارة في الأخبار ـ حتى على وسائل الإعلام المناوئ والمعادي ـ بغض النظر عمن حاول تشويه حقائق غدت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولم يعد بإمكان جيوش التضليل الإعلامي والتسميم الفكري المتعمد أن تغير قناعات الناس بما يرونه بأم العين، ولعل هذا هو الاختراق الأهم والحلقة الأخطر التي تم كسرها في مسلسل الحصائر الجائر والمفروض الذي تهاوى وإلى غير رجعة، فنهج المقاومة هو الأرسخ والأقوى والأقدر على تجسيد معالم الهوية في زمن مسخ الهويات، وهو الأكثر كفاءة ومناعة في التصدي لفيروسات التبعية المسرطنة التي أريد لها أن تصبغ حاضر المنطقة ومستقبلها بالهزال والهشاشة وربط المصير بالخارج المتآمر الذي ما فتئ يحيك الدسائس للإجهاز على روح الكرامة والثقة بالنفس، والانطلاق بيقين لرسم معالم النموذج الحياتي المعبّر عن الإرادة المستقلة لأبناء المنطقة بعيداً عن التهويل والتهديد والصراخ الذي تبين أنه ليس أكثر من فقاعات صابون عندما تُخْتَبَرُ الإرادات في حلبة مكاسرة علنية لم يعد بإمكان من يغمضون أعينهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم حذر الموت أن يتجاهلوا نتائجها المتبلورة أكثر فأكثر يوماً بعد يوم.
السادس عشر من أيلول لعام 2021م. ليس كغيره، وما بعده ليس كما سبقه، ففي هذا اليوم بالذات تجسدت بعض مفرزات الحرب المزمنة المفروضة مؤكدة دقة ما ورد في قوله تعالى:” وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”، فَعَلَتْ أهازيج اليقين بحقنا في الحياة أسياداً كرماء لا تابعين أذلاء، وفي هذا اليوم بُهِتّ الذين طغوا وتجبروا وأسقط في أيديهم، وكأنَّ الطير على رؤوسهم وهم يرون فراعنة العصر يقتدون بالنمرود الأكبر وهو يقعي على ذيله عاجزاً عن إخفاء الحقيقة أو تشويهها، فالصهاريج المعبئة بالمازوت الإيراني عبرت الطريق من بانياس إلى لبنان متهادية مطمئنة واثقة بأنها محروسة بهيبة محور المقاومة التي رافقتها على امتداد مسار الشحن من إيران إلى سورية، ومنها إلى لبنان لتنفيذ ما وعد بها صادق العهد والوعد الذي إن قال فعل، وواهمٌ من يظن أن منظر الصهاريج الناقلة عبر قوافل تتالت وتابعت تقدمها ـ إلى أن أفرغت حمولتها حيث يجب أن تفرغ ـ يمكن حصره في نقل شحنة من المازوت إلى لبنان المقاوم، فصورة تلك الصهاريج أكدت أن أنبوباً ضخماً لنقل المشتقات النفطية والغاز وغير ذلك قد تم تدشينه، وهو يتجاوز قواعد الحتمية الجغرافية، ويفرض على العالم الفيزيائي الخارجي التسليم بنتائجه المؤكدة أنه لا يقتصر على المسافة بين سورية ولبنان، بل إنه أنبوب ضخم صالح لنقل ما يجب نقله من طهران إلى بقية أقطاب محور المقاومة، وهذا الأنبوب عصيٌ على الاستهداف حالياً ومستقبلاً.
ما حدث في السادس عشر من أيلول ليس أمراً عارضاً، ولا موقفاً آنياً عابراً وقابلاً للتبدل والتغيير، بل هو شجرة مباركة آتت أكلها، وتدلت ثمارها اليانعة التي تسر الناظرين لتستكمل اعتماد ما تبقى من أنغام مطلوبة في سيمفونية التحدي والمواجهة المفتوحة والانتصار، وعلى المنبطحين الزاحفين، والتابعين المنفذين لأوامر أسيادهم، والخانعين القانطين اليائسين الميئسين أن يبتلعوا مرارة الهزيمة، ويجتروا علقم التسليم بالعجز المطبق عن مصادرة إرادة أصحاب الإرادة، وأن يكتفوا بجلد الذات وهم يرون السادرين في غيهم لا يقلون عنهم عجزاً في تغير اللوحة المتشكلة بأزهى الألوان لأنها رُسمتْ بريشة أمهر الفنانين، وحيكت خيوطها في ورشات تصنيع السجاد الإيراني، وتباركتْ بزئير أسد بلاد الشام في دمشق الصامدة المنتصرة، وتشرفتْ بخاتم من أغلقوا باب عصر الهزائم وفتحوا بوابات عصر الانتصار المتدحرج والمستمر والمتعاظم.
ما حدث في 16/9/2021م. يستحق أن يكتب بماء الذهب، وأن تخصص الكتب والدراسات الاستراتيجية المعمقة لفهم معانيه ومضامينه، وسأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض العناوين العريضة والأفكار المهمة، ومنها:
• ما كان لقافلة الصهاريج أن تنتقل من بانياس إلى الأراضي اللبنانية إلا ببركة دماء الشهداء الذين ارتقوا في العاشر من نيسان عام 2011م جراء استهداف العصابات الإرهابية المسلحة لقافلة مبيت للجيش العربي السوري، فارتقى شهداء، وأصيب جرحى عطرت دماؤهم الزكية اوتستراد بانياس ـ طرطوس وكانت بوابة الانطلاق لمواجهة التكفير الإرهابي المسلح والقضاء عليه، وليتصور أي متابع لو كان أولئك المجرمون ما يزالون يتحركون بحرية هل كان للصهاريج أن تحمل المازوت وتنتقل إلى لبنان؟.
• دماء الشهداء الأبطال من رجال الجيش العربي السوري امتزجت بدماء الأشقاء الميامين الذين كانوا في الخندق ذاته في مواجهة الإرهاب وداعميه، فليتذكر كل منا أيام الوجع عندما كانت عصابات القتل والإجرام تنتشر في وادي خالد وتسيطر على الجغرافية بين قلعة الحصن والأراضي اللبنانية، فماذا لو لم يتم تطهير المناطق الواقعة بين طرطوس وحمص من شرور أولئك القتلة؟ وهل كان بإمكان الصهاريج أن تنتقل بأمان إلا ببركة الدماء النقية الطاهرة التي حررت الأرض والإرادة؟.
• هل كان لنا أن نكتب ما نكتبه الآن لولا بركة التحرير الثاني الذي طهر الجرود السورية اللبنانية من تنظيم داعش والنصرة الإرهابيين؟ فالمنطقة الحدودية كانت مرتعاَ لأولئك القتلة، وكانت تعج بورش صناعة المتفجرات وتفخيخ السيارات التي كانت تستهدف العمق اللبناني والسوري بآن معاً.
• بالمنطق والموضوعية العلمية لا يمكن الفصل بين عدة صور متكاملة:
ـ صورة الصهاريج التي تعبر الحدود السورية اللبنانية محملة بالمازوت.
ـ صورة السفينة الحربية الإسرائيلية “ساعر ـ 5” في حرب تموز وآب 2005 التي قال عنها قائد النصر حفظه الله: “انظروا إليها إنها تحترق”.
ـ صور الباصات الخضراء التي أقلت الإرهابيين التكفيريين المسلحين بعد أن قال الجيش العربي السوري كلمته، فأذعنوا مرغمين، وتم ترحيلهم، وهم يحملون في أعماقهم فيروس الهزيمة الحتمية والانكسار.
ـ صورة البحارة الأمريكيين الأسرى الذين تم إلقاء القبض عليهم واقتيادهم إلى الشواطئ الإيرانية عندما اخترقوا المياه الإقليمية الإيرانية، وتم عرض صورهم وهم جاثمون على ركبهم وأيدهم مرفوعة ومشبوكة خلف رؤوسهم المدلاة ينتظرون العفو بعد الندم على الحماقة المرتكبة.
• صمود أطراف محور المقاومة وتكامل الأدوار فيما بينها أوصل الحصار المفروض إلى حائط مسدود، والإعلان المسبق عن الاستعانة بالمشتقات النفطية الإيرانية، وتنفيذ ما تم التعهد به ما كان له أن يتم بهذه الصورة لولا وصول مفاصل صنع القرار الأمريكي ومن يدور في فلكها إلى قناعة تامة بأن تكلفة المواجهة المباشرة تفوق المردودية، وبالتالي كان المطلوب تدوير الزوايا، والعمل على تفاهمات مع بقية القوى المرشحة لأخذ دور القطب المكافئ بعد كسر الأحادية القطبية.