روبير بشعلاني | باحث واستاذ جامعي لبناني
من الافكار العجيبة التي تنتشر حالياً بسبب عدم الرد عليها فكرة ان فهم الواقع كما هو حقيقة يعتبر اعترافاً نهائيا بهذا الواقع وخضوعا له فضلاً عن تأبيده بوصفه الواقع.
فاذا تحدثنا عن البنية الاجتماعية القرابية بعمرانها البشري نصبح قرابيين.
واذا تحدثنا عن الهيمنة/التبعية نصبح تبعيين وعاجزين عن التقدم وتقديم الحلول.
واذا انطلقنا من حسن النية واعتبرنا ان صاحب هذه الاقوال يقولها عن قناعة لا بهدف التضليل وتحوير النصوص فعلينا بالمقابل ان نقر بأن نظرته للواقع نظرة طوباوية وجوهرانية وغير تاريخية.
فالاشارة الى الجانب المسيطِر في الظواهر لا تعني بأي حال من الأحوال انها كل الواقع ولا وجود لوقائع اخرى فيها.
فالواقع ليس ظاهرة احادية المعطى نقية وخالية من التناقضات.
بل هو تعبير عن جانب من الظاهرة لكنه الجانب المسيطِر، الجانب الظاهر.
وتظهير الجانب الغالب لا يعني الاقتناع به وقبوله كمعطى ابدي بل هو ممر اجباري لدراسة الظاهرة عامة وفهمها وتعيين نقيضها .
فكما ان الهيمنة تعبير عن مصالح الجانب الغالب في ظاهرة الرأسمالية كذلك فأن التحرر نقيضها ويعبر عن مصالح الجانب المستتبع والمنهوب.
وليس لأن الهيمنة مسيطرة في مرحلة من التاريخ نستنتج ان التاريخ قد انتهى واختفت التناقضات وان التحرر مستحيل.
فدراسة الظواهر تكون بدراسة تناقضاتها وتتبع مصيرها ومسارها التاريخيين.
واتخاذ المواقف السياسية لا يكون بناء على رغبات شخصية التي تكون اغلب الظن مصنعة ومقولبة ومفروضة لانها السائد، بل يستند الى تلك الدراسة للتناقضات الملموسة التي تملي على السياسي المهمات التاريخية الممكن انجازها.
لا يمكن اذا لا اجتراح مهمات من عندياتنا ولا اتهام المنطلق من الواقع الملموس وتناقضاته بتأبيد الحاضر .
تعيين الاهداف والمشاريع المطلوبة يتطلب بخاصة مقدمات لا بد منها . فهي ليست مسائل تقليد للآخرين وتواريخهم بل دراسة الظاهرة بشموليتها وتعيين تناقضاتها الملموسة ووجهتها التاريخية.
فعندما نقول ان هناك هيمنة مسيطِرة لا نعني انها ابدية بل نعني ان نقيضها ليس التغيير الجزئي بل التحرر.
وعندما نقول ان عمراننا البشري خضع للتجميد وبقي قرابياً فلا نعني اننا نشيد به بل نعني ان نفهم تركيبته ومصالح اطرافه حتى نضعه في سياق التحرر الوطني بشكل صحيح، وحتى نتجنب حروبا اهلية اكيدة بسبب جهلنا للقوى الاجتماعية التي نطرح رغباتنا عليها.
التناقضات في الظاهرة الاجتماعية تعبر عن نفسها بواسطة قوة اجتماعية ما ولا يمكن بناء مشاريع تغيير بدون قوة اجتماعية مثل هذه.
فأي طرح تغييري لا يعين حاضنته الاجتماعية سلفاً( الكلام عن ان الشعب يولد بالصراع كلام عمومي يعبر عن العجز عن قراءة نمط المعاش) هو إما مشروع طفولي وإما، غالباً، مشروع حروب اهلية من اعداد الهيمنة وحواضنها الاجتماعية.
ان عملية التحرر الوطني وكسر الهيمنة لا يعنيان عدم تحرير الجزء عندما تتوافر شروطه لكن شريطة وضع هذا التحرير الجزئي في سياق الصراع العام حتى لا يتفاجأ بالهجوم المضاد لمنظومة الهيمنة والتوهم بأنه ” تدخل خارجي”.
فهم الواقع ليس عيبا اذن بل عدم فهمه هو العيب.