د. أيمن عمر | كاتب وباحث
منذ نشأة الجمهورية اللبنانية، والأخيرة ليست بمنأى عن الأحداث السياسية الخارجية، وصراعات الإقليم ولعبة الأمم، ومما يجعل لبنان في قلب الصراعات، وجود الكيان الإسرائيلي على حدوده الجنوبية. ولكن على الرغم من وجود العديد من دول الطوق إلّا أنّ تركيبة لبنان الطائفية ونظامه السياسي يجعلان منه كياناً هشّاً وعرضة للاهتزازات والأزمات البنيوية، بسبب فقدانه مقوّمات المناعة الذاتية. كانت ولا زالت هوية لبنان ودوره الوظيفيّ في المنطقة محور الصراع، بل والاقتتال الداخلي اللبناني، إذ إنّ دستور 1943 تضمّن في مندرجاته أهم إشكالية وهي أنّ لبنان ذو طابع عربي، فبذرت البذرة الأولى ومهّدت البيئة لصراعات داخلية عميقة وصلت في مداها إلى حرب أهلية، أنتجت اتفاق الطائف الذي أكّد على نهائية الكيان اللبناني وعروبته. هذه التناقضات الداخلية لطالما ارتدّت أزمات داخلية عبر انقسام اللبنانيين ضمن لعبة المحاور الأممية والإقليمية، تمثل في خمسينيات القرن الماضي في حلف بغداد وثورة شمعون. ولم تنفع معها دعوات الحياد وشعارات عديدة مثل ” لا شرقية ولا غربية” و” لبنان قويّ بضعفه في تحييده عن الصراعات الخارجية.
ما بعد الطائف تكريس للطائفية
حمل اتفاق الطائف الذي ساهم في إنهاء الحرب الأهلية العديد من الإصلاحات التي تؤسّس لبناء نظام سياسي متين يعالج سلبيات السابق. ولكنّ هذه الإصلاحات لم تُطبّق في معظمها حيث تكوّنت منظومة حاكمة داخل الدولة اللبنانية شكّلت الدولة العميقة التي تحالفت في ما بينها لاستغلال الموارد العامة. وابتدعت هذه المنظومة مفاهيم وتطبيقات سياسية خارج نطاق المألوف في علم السياسة تدور حول الديمقراطية التوافقية بحجّة الميثاقية والحفاظ على الأمن والسلم الأهلي. ولكنّ هذه البدعة السياسية كرّست التحاصص في السلطات والإدارات العامة، والتنازع على المالية العامة مستخدمة الخطاب المذهبيّ والطائفي أداة لتحقيق كلّ فريق سياسيّ مطامحه وأطماعه، ولشدّ العصب عند الاستحقاقات الدستورية، فأصبحنا أمام كيانات مذهبية وطائفية داخل الكيان اللبناني.
“حزب الله”: أكبر من لبنان
استمرّت نظرية ” لبنان قويّ بضعفه” متحكّمة في مسار الصراع مع الكيان الإسرائيلي الغاصب، حتى جاء تحرير الجنوب اللبناني في 25 أيار 2000 وحرب تموز 2006 لتؤسّس لمرحلة جديدة في التاريخ اللبناني وتكسر كلّ النظريات التقليدية القديمة بحيث طفت على الساحة مفاهيم ونظريات جديدة. وبقي سلاح المقاومة محصوراً في الداخل اللبناني لأغراض الدفاع عن لبنان ومواجهة العدوّ الإسرائيليّ حصراً، إلى أن بدأ ما يُسمّى الربيع العربي وامتداد ناره إلى سوريا وإعلان “حزب الله” دخوله في الحرب السورية إيماناً منه بأنّ ذلك يحمي المقاومة في لبنان، واعتقاده أنّه المستهدف في ذلك أيضاً. بل توسّعت مشاركة “حزب الله” الخارجية ليساهم في العراق واليمن مسانداً بل ولاعباً رئيساً في محور المقاومة في مواجهة محور التطبيع والولايات المتّحدة الأميركيّة. ومع نقض الاتفاق النووي الإيراني في أيار 2018 دخل لبنان في أتون الأزمات المشتعلة في الإقليم، وأصبح ساحة أساسيّة من ساحات الصراعات.
صراع وجوديّ
لا تقلّ الحرب الاقتصادية أهمية في مفاعيلها الكارثية عن الحرب العسكرية، وهو ما يعاني منه لبنان، حيث صُنّفت الأزمة اللبنانية بأنّها ضمن الثلاث الأسوأ عالميّاً منذ منتصف القرن الثامن عشر. هذه الحرب الاقتصادية تقودها الولايات المتّحدة في مواجهتها لـ”حزب الله”، بما يلعبه من أدوار في الخارج اللبنانيّ، ساهمت في تحقيق انتصارات محور المقاومة. صراع كبير جدّاً ومفصليّ تشهده الساحة اللبنانية بين فريقين: فريق تقوده الولايات المتّحدة الأميركيّة، والآخر يقوده “حزب الله”، ولكلّ فريق أدوات قوّة يستخدمها هو، ونقاط ضعف يستغلّها الفريق الخصم. منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية والولايات المتّحدة تمسك بثلاثة مفاصل أساسيّة في الدولة وهي: الجيش اللبناني، المصرف المركزيّ والسلطة القضائيّة، وبذلك تملك الولايات المتّحدة زمام القرار والتأثير في 3 مؤسّسات هي الأهم والتي تقوم عليها الدول: الأمن والمال والقضاء، مدعومة جميعها بمؤسّسات إعلامية ناجحة في تسويق المشروع الأميركيّ، وما يُحكى عن هيمنة “حزب الله” على الدولة اللبنانية يجانب الصواب بالمطلق. أمّا أهمّ مكامن قوّة “حزب الله” فهو تماسكه التنظيميّ في كافة المستويات والالتفات الشعبيّ المتراصّ في بيئته من كلّ الأطراف، مع تحشيد أيديولوجيّ ومعنويّ هائل، مدعوماً بتمويل كبير تحصّنه في مواجهة العقوبات. وهو يمتلك منظومة عسكرية تفوق المؤسّسة العسكرية الرسمية، وتضاهي العديد من الجيوش النظامية، مع خبرات ميدانية قلّ نظيرها عند جيوش المنطقة، والانتصارات العسكرية التي حقّقها في الداخل وساهم في تحقيقها في الخارج تجعل منه الرقم الأصعب في المعادلة الوطنية. تقود الولايات المتّحدة قطار التطبيع في المنطقة وتسعى إلى تحقيقه في لبنان، ولكن هذا الأمر يجعلها في موقف الضعيف، لأنّ غالبية الشعب اللبناني بكلّ مكوّناته في عداء أيديولوجيّ ووجوديّ مع الكيان الغاصب، لأهمّ بقعة من مقدّسات الأرض. بالإضافة إلى أنّ الدور الأميركيّ يبدو أنّه في انحسار مع أفول الأحادية القطبية، ومن أبرز مؤشّراته الانسحاب الأميركيّ من افغانستان والعراق. إن إعلان “حزب الله” عن اتّباعه لولاية الفقيه أقلق جزءاً من الشعب اللبناني الذي يجد امتداده الطبيعيّ في العروبة، ونجحت الماكينة الإعلامية الناشطة في تسويق نظرية العداء الفارسي للعروبة والهلال الفارسي، وأنّها تعدل العداء الإسرائيلي مستغلة تصرّفات بعض الأطراف الشيعية في المنطقة وخطابات أهم قادة شيعة. وإنّ أحداث 7 أيّار المجيدة في العام 2008، بغضّ النظر عن مبرّراتها وشرعيّتها، أفزعت جزءاً أيضاً لا بأس به من اللبنانيين، وشعورهم أنّ سلاح الحزب قد يستخدم في الداخل اللبناني عند احداث معينة، ويستغلّ الإعلام هذه الحادثة بشكل دائم لاستثارة الغرائز وشدّ العصبيات. ومن نقاط الضعف هو ضعف البيئة الحاضنة للمقاومة خارج نطاق البيئة الشيعية وسهولة تغلغل كلّ المشاريع المناهضة له وفي مقدمها الـNGOs.
الجمهوريّة الثالثة
إنّ ما نشهده من أزمات عناوينها مختلفة من: استقالة قرداحي، إلى “قبع” بيطار وإلى إقالة حاكم مصرف لبنان وغيرها، ما هي إلّا شكليّات ظاهريّة، المعركة في المضمون هي معركة وجودية بين فكرين متناقضين بمشروعين متناحرين. ويشتدّ هذا التناحر في ظلّ مخاضّ التسويات التي انطلق قطارها، والتي ترسم خرائط جديدة للمنطقة ومعالمها المستقبلية. ومهما كانت النتيجة، فإنّ الثابت أنّ لبنان القديم لم يعد يصلح للحياة والاستمرار، وأنّ لبناناً جديداً سيتشكّل، وعنوانه الشيعية السياسية بعد فشل المارونية السياسية وانتهائها مع اتّفاق الطائف، وفشل السنيّة السياسية التي تنتظر إعلان وفاتها عند مؤتمر تأسيسيّ جديد.
مركز بيروت للأخبار