صراع القوى البحرية في الخليج.. القدرة على السيطرة

الدكتور علي مطر | كاتب وباحث لبناني

تحتل منطقة الشرق الأوسط مقدمة الصراع الأكثر حماوةً في آليات التشابك، فيما بات الإمساك بزمام موارد النفط والغاز الطبيعي، وأنابيبه وممراته، معياراً أساسياً من معايير القوة الجيوسياسية، فهذه التحولات لم تأت إلا في سياق التبدل في مقومات القوة الاقتصادية والهيمنة العسكرية التي ترتكز على حجر أساس هو الطاقة بشكل عام.

الأزمات والصراعات المحتدمة تمتد اليوم عبر 3 قارات  و3 بحار وبين عشرات الدول، انطلاقاً من البحر الأبيض المتوسط، ثم الخليج ومضيق هرمز، ثم البحر الأحمر ومضيق باب المندب، مروراً بالمحيط الهندي وبحر العرب وخليج عُمان. من هذا المنطلق تأتي أهمية الممرات البحرية الاستراتيجية التي تحظى باهتمام كبير في الأمن العالمي، فهي تُعد نقاط اختناق يسهل السيطرة عليها من كيانات معادية، ومن ثم التأثير على خرائط التوزيع والانتشار وتهديد الاقتصاد العالمي في وقت قصير. لذلك كانت الأساطيل البحرية وما زالت رمزا لقوة الدول وقدرتها على حماية حدودها البحرية، إضافة إلى استخدامها في فرض سيطرتها على مناطق جغرافية خارج حدودها.

أولاً: استراتيجية السيطرة البحرية

على عكس هالفورد ماكيندر الذي ينطلق من فرضية أن الصراع الدولي عبر التاريخ هو الصراع بين امبراطورية البر وامبراطورية البحر وأن الصدارة في القوة هي لامبراطورية البر، والذي قدم نظرية قلب العالم، وأن الذي صنع تاريخ العالم وسوف يصنعه دائما هم سكان المناطق الداخلية، فإن ضابط البحرية الأمريكية ألفريد ماهان الذي تأثر كثيرًا بقوة بريطانيا البحرية، ركز على أهمية القوة البحرية لفرض السيطرة والهيمنة الإمبراطورية، وقد خلص إلى نتائج مغايرة لنتائج ماكيندر، يرى فيها أن قارات العالم الشمالية هي مفتاح السيطرة وأن أوراسيا هي أهم جزء في العالم الشمالي، ويعتبر أن الغلبة والسيطرة للقوى البحرية، وعليه يرى ماهان أن الولايات المتحدة تستطيع من خلال تحالفها مع بريطانيا تحقيق السيطرة العالمية خاصة مع السيطرة على قواعد عسكرية تحيط بأوراسيا نظرا لتفوق الحركة البحرية على الحركة الأرضية.

ماهان الذي يعتبر أب الاستراتيجية البحرية رأى أن الدفاع عن الولايات المتحدة مثلا لا يكون بمحاولة منع وصول سفن العدو إلى سواحلها وإنما بإعداد أسطول من الوحدات البحرية الضخمة التي تحول دون فرض أي حصار على البلاد، ورأى ماهان أن الأسطول هو القطع البحرية الضخمة التي يمكنها التحكم في المياه المحيطة بالولايات المتحدة وعلى بعد كبير من سواحلها، وقد وضعت أفكاره موضع التطبيق العلمي في الاستراتيجية الامريكية.

ثانياً: القوة البحرية في العقلية الأميركية

وتشكل الهيمنة على البحر أساس الأمن القومي الأميركي، لأهمية ذلك تتبع القوة البحرية مباشرةً إلى رئيس الولايات المتحدة، ويقول جورج واشنطن واصفًا البحرية سنة 1776: “في ظلام الليل الدامس، نحتاج القوة والسفن البحرية فبدونها ليس لنا شيء ومعها لنا النصر والكرامة”. وما يطالب به المتخصصون في الاستراتيجية العسكرية ينسجم تماماً مع البداية التي تأسست عليها الولايات المتحدة نفسها كقوة بحرية، وهو ما رسخ فهم الأميركيين بشكل غريزي للمعادلة الاقتصادية المرتبطة بنظرية البحر الحر، والتي تسمح للمواد الخام والسلع المصنعة بالتحرك بكميات كبيرة على متن السفن من مواقع وفيرة ورخيصة لبيعها في الأسواق التي تندر فيها، وتحديد سعر مربح تحدده سوق تنافسية.

لكن مع بدء التحالفات الأجنبية وانخراط الولايات المتحدة في حروب عالمية داخل أوروبا وآسيا في القرن العشرين، تحولت الاستراتيجية من منظور القوة البحرية إلى منظور القوة القارية التقليدية، بل لنقل تحولت إلى قوة الهيمنة الأميركية، ومع نهاية الحرب الباردة ولحظة الإحساس بالقوة المفرطة، اعتقد الأميركيون أنهم يجب أن يكونوا قوة برية وبحرية في الوقت ذاته.

ولم يعد الأسطول الأميركي كبيراً بما يكفي لحماية مصالحه باستمرار حول العالم نتيجة تراجع الاستثمار والإنفاق على القوات البحرية، ما خلق فراغاً سمح بمنافسة أميركا في المشاعات البحرية العالمية الكبيرة بشكل لا يمكن أن تتحمل واشنطن خسارته.

ويرى متخصصون أميركيون أنه يجب على واشنطن الاستمرار في قيادة العالم حتى يتمكن الهيكل الأمني الذي أنشأته من التماسك، ولكي يحدث ذلك يجب الاعتراف بأن وضع أميركا الاستراتيجي في الوقت الحالي لا يتماشى مع نهج القوة البرية القارية في العالم، ففي أميركا الشمالية تقع الولايات المتحدة بين كندا والمكسيك، وهما دولتان ودودتان غير مهدِّدتَين وأصغر بكثير من حيث عدد السكان والقوة الاقتصادية، بما لا يجعل الولايات المتحدة في حاجة إلى جيش بري دائم كبير الحجم، لذلك يدعون إلى تعزيز الاستراتيجية البحرية.

ثالثاً: الخليج حرب الإرادات

لقد تجلت أهمية القوة البحرية، من خلال الصراع الجاري في منطقة الخليج ومضيق هرمز، فلطالما تجلّى الصراع بين واشنطن وطهران في منطقة حيوية جداً من منطقة الشرق الأوسط، إنها المياه الخليجية التي تفصل إيران عن عدد من الدول العربية. هناك تدور المواجهات على مختلف المستويات، بعضها ينتهي بالتهديد والتحذير والاستفزاز، وبعضها لم ينتهِ إلا بالحديد والنار، إلا أنها حرب الإرادات.

وتكمن أهمية هذه المنطقة بأنها تعد ممرًا لخمس الاستهلاك العالمى من النفط، الذي يقدر بنحو 100 مليون برميل يوميًا. يمر نحو الصين واليابان، وكوريا الجنوبية والهند وسنغافورة ودول أخرى، عبر تلك المنطقة من خلال مضيق هرمز، 88 % من الإنتاج النفطي للسعودية، 98 % من إنتاج العراق، 99 % للإمارات، وكل نفط إيران والكويت وقطر تقريباً، من هنا تكمن أهمية السيطرة البحرية في هذه المنطقة من العالم.

رابعاً: القوة البحرية الإيرانية

تتواجد القوات البحرية الإيرانية في بحر عمان والمحيط الهندي والخليج العربي وهي مكلفة بمسؤولية تشكيل خط الدفاع الأول في إيران في بحر عمان وما وراءه مع مهمة القيام بدور البحرية الفعالة في المياه الزرقاء. كما أنها تعمل في الغالب على المستوى الإقليمي، في الخليج وخليج عمان ولكن أيضا تعمل في أماكن بعيدة مثل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والجانب الشمالي الغربي من المحيط الهندي.

وتمتلك الجمهورية الإسلامية منظومات متكاملة من الأسلحة المتطورة من السفن الحربية والغواصات والزوارق السريعة والصواريخ والطوربيدات البحرية والألغام البحرية وسلاح الطيران التابع للقوات البحرية، التي تمكنها في أي وقت من إغلاق مضيق هرمز الذي يعتبر أهم ممر مائي في العالم نظراً للحجم الهائل من صادرات النفط التي تعبره يومياً وكذلك الواردات الضخمة لدول الخليج.

لقد استمرت إيران بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، في إنشاء قواعد بحرية على طول ساحلها على الخليج العربي وخليج عمان، وفي الجزر الإيرانية، كما استمرت في تدعيم أسطولها البحري وتحديث أسلحته، ورفع قدراته القتالية عبر سلسلة طويلة من المناورات البحرية؛ مما جعلها تثق بأن حضورها الفاعل في الخليج وبحر عُمان، بات يشكّل أكبر قوة للحفاظ على أمن واستقرار هاتين المنطقتين الإستراتيجيتين.

وبحسب بعض التقديرات يضم الأسطول البحري لإيران 398 قطعة بحرية، في المقابل تمتلك بريطانيا 76 قطعة بحرية فقط بينها 6 فرقاطات. وقد دشنت البحرية الايرانية المدمّرة “سهند” إيرانية الصنع، وحاملة المروحيات “مكران”، وتسلح المدمرات الحديثة بصواريخ بحر-جو مضادة للطائرات وبحر-بحر مضادة للسفن والطوربيدات التي تطلقها الغواصات.

وفي حين تمتلك إيران 3 من الطرادات البحرية التي تعتبر أكبر حجماً من المدمرة، تملك بالمقابل 3 قطع منها ، ومن حيث عدد الغواصات التي تعد عنصراً هاماً في تحديد الكفاءة العسكرية للأساطيل البحرية للدول، تتفوق بامتلاك إيران 34 غواصة  و 88 قطعة بحرية من سفن الدوريات.
لقد تم بناء القدرات البحرية وفق منهج علمي يأخذ بنظر الاعتبار حاجة ايران الفعلية بما يتناسب وموقعها الإقليمي، ويأخذ بالحسبان قدرات العدو وتهديداته وبناء تلك القدرات بما يردع تلك التهديدات.

خلاصة

لا شك أن للقوة البحرية اليوم أهمية فائقة على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي في المنطقة التي نتحدث عنها، وتأتي أهمية القوة البحرية الإيرانية من أنها اكتشفت قدرات العدو، وأهمية الموقع الجغرافي الذي تعمل فيه، وطورت قدراتها على هذا الأساس وبحسب هذا النسق، وهي من خلال ما يحدث بشكل دائم من مواجهات في هذه المنطقة، تؤكد أن لها القدرة على تعقيد الأمور ورسم خارطتها في الخليج، فهي تملك القدرة والقرار والجرأة.

وعلى الرغم من أهمية القوة البحرية الأمريكية، فإن إيران استطاعت استكشاف طريق عملها، والأهم من ذلك أنها تملك الإرادة على المواجهة، وبالرغم عن الاستنفار الأمني الأميركي الكبير في المنطقة، في ظل مساعي القوات الأميركية، لبناء تحالف أمني في المضائق المائية قبالة إيران واليمن، فإن إيران قادرة على تحويل المنطقة إلى جحيم في وجه القوات الأميركية، كما أنها قادرة على تسكير طرق التجارة والملاحة البحرية في المنطقة بمعزل عن حساسية هذا القرار، وفي المقابل يفهم الأميركي أن الطرف الإيراني هو طرف قوي لا يمكن اللعب معه على حافة الهاوية، ولديه القدرة على جعل المنطقة ناقلة كبيرة لجثث الأميركيين في حال فكروا بالاعتداء على طهران.

 

Exit mobile version