“سيف القدس” وإخراج دمشق من الفخّ الكارثيّ
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
تلقَّفت دمشق نتائج الانتصار الكبير للمواجهة الأخيرة بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية، التي توحّدت بمستوويها المدني والعسكري، وبقطاعاتها الثلاثة في غزة والضفة الغربية والأراضي المحتلة العام 1948، بسعادة كبيرة، لظهور نتائج موقفها الداعم للمقاومة الفلسطينية الذي لم ينقطع، رغم كل ما أصابها من بعض حركة “حماس” أثناء قيادة رئيس مكتبها السياسي السابق خالد مشعل، ما دفع الرئيس الأسد إلى استقبال قادة المقاومة بشكل علني، والتركيز على ضرورة إبراز الدور السوري في كلِّ الانتصارات، بما في ذلك الانتصار الأكبر، عملية “سيف القدس”، التي غيرت المعادلات داخل فلسطين، وأظهرت مدى هشاشة الكيان الذي لا جذور له في هذه الأرض، حتى تاريخياً، والَّذي تشبه خرافة قوّته خرافة وجود يهوذا و”إسرائيل” ومعبد سليمان في أرض فلسطين. كما أدركت دمشق بحسها السياسي الخبير بالشؤون الدولية أنَّ هذا الانتصار سينعكس عليها إيجاباً في المدى القريب إقليمياً ودولياً.
لم تكن فلسطين في العقل السوري في أي يوم من الأيام إلا جزءاً من البيئة الجغرافية السورية، التي حدَّدها أغلب الجغرافيين العرب بمصطلح بلاد الشام، ومنهم الإدريسي الأشهر، باعتبارها المناطق التي تمتد من شمال وغرب السويدية، التي تشكل الحد الفاصل بين بلاد الشام وبلاد الأرمن، إلى العريش أو رفح جنوباً. وقد قُسِّمت إدارياً في عهد السيطرة العثمانية في القرن التاسع عشر إلى 3 ولايات، هي دمشق وحلب وبيروت.
ولَم يكن الفلسطينيون يتعاطون مع دمشق إلا باعتبارها مركزهم السياسي والاقتصادي، وهو ما دفعهم إلى الاشتراك في مؤتمر سوريا الأول في دمشق في العام1918 ، بوفدٍ مؤلف من 17 شخصية فلسطينية، على رأسهم ممثل نابلس الباحث والمؤرخ عزة دروزة، الذي اختير نائباً لرئيس المؤتمر وقام بتلاوة بيانه الختامي، الذي عبَّر فيه عن رؤية مشرقية للهلال الخصيب ضمن إطار عربي.
لَم تغب هذه الرؤية عن أغلب الفلسطينيين من الناحية الفعلية، حتى بعد تشكّل المقاومة الفلسطينية بفصائلها المتنوعة، واختيارها دمشق مركزاً وحاميةً لها أثناء احتلال بيروت وإبّان تحريرها من العدو الإسرائيلي، والأهم من ذلك، حركتا “حماس” و”الجهاد” الإسلاميتان، رغم التناقض الأيديولوجي بينهما. وخير من استطاع أن يعبر عن هذا التوجه العام، رغم كل ما شاب المواقف السياسية، هو الشهيد نزار بنات الذي عرّف عن نفسه بأنه سوري فلسطيني.
هذا ما يفسّر دوافع العقل السياسي السوري بالتعاطي مع القضية الفلسطينية، ففضلاً عن كونها قضية حقوقية أخلاقية إنسانية ذات بعد عربي وإنساني، فإنها قضية احتلال لأرض سورية تشكّل بعداً استراتيجياً للتواصل مع مصر وادي النيل وقارة أفريقيا بأكملها، وهي أهم منطقة سوريَّة يقتضي التركيز عليها أكثر من لواء إسكندرون وبقية المناطق المحتلة، كما أنَّها قضية وجودية بسبب طبيعة الكيان التوسعية وأبعاد سياسات الهيمنة والاستعباد التي تشكّل من أجلها ضمن دوائر متعددة، أقربها إليه سوريا ومصر.
ورغم خروج سوريا من معظم الفخاخ التي نصبت لها، وخصوصاً في الفترة الفاصلة بين العامين 2006 و2011، بفضل حرب تموز في جنوب لبنان، التي ساهمت بها بشكل كبير وواسع، واعتبرتها نصراً كبيراً لها، ما دفع الولايات المتحدة إلى نصب فخّ اقتصاديّ، برفع اتهامها المزوّر بقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عنها، وتوجيهه إلى “حزب الله”، ودفع دول السّعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة وتركيا ومصر إلى الانفتاح على سوريا، ومحاولة تغيير تموضعها الجيوسياسي بين الشرق والغرب بالسياسات الاقتصادية الليبرالية التي يغلب عليها الطّابع الخدمي والنمط الاستهلاكي.
ورغم ما تحقَّق من ذلك، فإنَّ دمشق عندما وُضعت بين خياري الشرق والغرب في مشاريع نقل الغاز القطري إلى تركيا عبر الأراضي السورية، ودعم المقاومة لأجل فلسطين وتسليمها كي يتم ذبحها، فإنها رفضت المساومة، ما تسبّب بتعرّضها لأكبر كارثة في تاريخها، باستخدام نمط الجيل الرابع من الحروب لتدميرها (حروب الوكالة)، والذي أدّى إلى حدوث صدع اجتماعيّ كبير، بفعل النجاح في إثارة الهويات الفرعية لدى طيف واسع لا يُستهان به من السوريين.
تدرك دمشق، أياً كان صاحب القرار فيها، عمق القضية الفلسطينية في وجدان وعقل السوريين الذين اندفعوا للتطوع في حرب 1948، رغم تنوع الهويات الفرعية بأشكالها القومية والدينية والمذهبية والقبلية والعشائرية والمدينية والريفية، وهي تشكّل القاسم المشترك الأكبر القادر على تجاوز هوياتهم الفرعية نحو إبراز هويتهم السورية الجامعة. وقد تجلت خير تجلٍ أثناء حرب تموز، باندفاع كل السوريين لاستقبال اللبنانيين الذين لجأوا إليهم بعد العدوان الإسرائيلي الواسع التدمير للجنوب اللبناني، وهي الآن بأمسِّ الحاجة لرأب الصدع الاجتماعي الكبير والعميق الذي تسبّبت به الحرب الكارثية على سوريا والسوريين.
تأتي أهمية معركة “سيف القدس” الأخيرة التي لا تُقدر قيمة نتائجها الكبرى حتى الآن لسوريا والإقليم، وقد تكون دمشق الرابح الأكبر بعد الفلسطينيين فيها، بأنها كشفت دورها السابق والمستقبلي تجاه فلسطين، واختبرت من جديد مدى قدرة الالتزام بالمواجهة الحقيقية المباشرة مع “إسرائيل” وإيقاظ وجدان أغلب السوريين للعودة إلى سوريّتهم، على الرغم من كوارث الحرب والحصار، وعقوبات “قيصر”، وتغوّل اقتصاد الظلّ وسيطرته على معظم مفاصل الاقتصاد، والانحسار الكبير لدورة الحياة الاقتصادية الطبيعية، وهي الآن تحتاج إلى الخروج من الكارثة بمعالجة 3 مسائل أساسية مترابطة وعاجلة، لا يمكن الفصل في ما بينها، أولها الملف الاقتصادي الذي تتطلَّب معالجته إرادة وإدارة وعقلية جديدة، ورأب الصدع الاجتماعي، واستعادة الدور الإقليمي الحامي لها واللائق بموقعها الجيوسياسي الأخطر.
وقد وفَّر انتصار عملية “سيف القدس” عاملين مهمين للخروج الناجح من الفخ الأخطر، وهما الدور الإقليمي الذي سيعود إليها إلى حد كبير، ودور عامل الرفض لبقاء “إسرائيل” ومقاومتها بإزالة الصدع الاجتماعي.
ويبقى العنصر الأهم والضاغط الذي يتعلَّق بإعادة الدورة الاقتصادية الطبيعية، وفقاً للموارد المتاحة ومساهمة الحلفاء والأصدقاء، وتحجيم اقتصاد الظل إلى الحدود القصوى، وهو ما ينتظره السّوريون بعد السابع عشر من هذا الشهر، كي يتابعوا تحرير ما تبقّى من أراضيهم المحتلّة في الشمال السوري من الاحتلالين التركي والأميركي، فهل تتحقَّق آمالهم بذلك؟