غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد .
تُهمِل الأدبيات المتداولة في الصحافة اللبنانية والعربية وسائر وسائل الإعلام حقيقةً استراتيجية، شرع يلتفت الإعلام الغربي الى قيمتها، تتمثّل بآفاق نهوض القوة الاقتصادية السورية وإشعاعها في محيطها القريب والبعيد.
أولا: تُركِّز التقارير المتداولة على خصائص نوعية في التكوين الاقتصادي السوري والقوى المنتجة الفتية لشعب حي، وللدولة الوطنية، التي عملت على تنمية الإنتاج منذ عقود، فطوّرت البنى الأساسية للصناعة والزراعة، وحقّقت تطورات نوعية جعلت منها علامة فارقة في العالم الثالث. وكانت بكل تأكيد في صلب خطة تدمير الاقتصاد السوري، التي نُفّذت خلال السنوت العشر الماضية، وبتخطيط أميركي غربي، وبأدوات عربية ومحلية متعدّدة.
تدمير صروح الإنتاج وسياسات الخنق الاقتصادي تعكس لمن يُدقّق محاولة أميركية – غربية للتخلّص من قوة تحرّرية، حضّرت بنيانها الداخلي بما يتعدّى حدود الكفاية الذاتية، وتميزت بدور إقليمي ناشط، استهدف منظومة الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية على الشرق العربي. من هنا يمكن أن نقرأ البعد الاستراتيجي الحاسم في خطة تدمير سورية، ليس فحسب لإخماد فعلها الإقليمي ولجمه باستنزاف خطير وشامل وإرباك لا حدود له خلال العقد المنصرم، عبر إشغالها بالدفاع عن وجودها. وبعد انكسار العدوان باتت أولوية مراكز التخطيط الأميركية الغربية، هي تكبيل القوة السورية، وتأخير نهوضها لتلافي وجود عامل ديناميكي، سيغيّر كثيرا في البيئة الإقليمية.
ثانيا: إن الدولة الوطنية السورية، التي صمدت ضد عمليات التدمير والحصار والخنق الاقتصادي، ولا تزال تواجه كلّ ذلك بإرادة صلبة، تخوض معركة شاقّة في إعادة البناء بعد الحرب وبالاعتماد على الشركاء والحلفاء الموثوقين، الذين يقيمون معها علاقات متكافئة على أساس وحدة المصير، وانسجام التوجهات الكبرى، والعداء للهيمنة الأميركية في العالم والمنطقة. ولذلك فإن التوجه الشرقي لسورية، الذي سمح لها في العقود الماضية بأن تزدهر وتنمو وتصمد في أصعب الظروف، سيكون رافعة القوة الاقتصادية السورية المقبلة في فضاء الشرق الواسع بنجاح ورشة إعادة البناء، التي تقودها الدولة الوطنية بإمكاناتها الذاتية، ومع شركائها الموثوقين، تتقدمهم كلّ من روسيا والصين وإيران. والأكيد أن الطاقة السورية المنتجة، والتنوّع في موارد الثروة، الذي كان سرّ النموذج السوري الاستقلالي، ستكون مصادر تفوّق وتميّز لورشة البناء بعد الحرب رغم الكلفة العالية والأضرار الجسيمة، التي ألحقها العدوان طيلة السنوات العشر الماضية. لكن التصميم والإرادة، اللذين تظهرهما الدولة الوطنية بجميع مؤسساتها، والقدرة على تعبئة القوى الشعبية والمجتمع بجميع قواه الحية، تشير الى أن سورية قادرة على احتواء المصاعب، والتقدّم في نهضة جديدة بعد الكارثة والدمار. ويمكن لنا في كلّ ذلك أن نلتمس أحد الدوافع الكبرى للعدوان، الذي استهدف سورية، وهي تهشيم البنى الاقتصادية، وتعطيل الدور النوعي الناهض، وليس فحسب، التخلّص من قوة إقليمية تحرّرية أشعّت في محيطها دائما، وكانت باستمرار على الخطوط الأولى في مجابهة الكيان الصهيوني وقوى الاستعمار الغربي في المنطقة.
ثالثا: لن تكون إعادة البناء رحلة سهلة، بسبب المصاعب، التي يثيرها الحصار الغربي ومنظومة العقوبات بهدف محاصرة سورية، عدا عن ارتفاع كلفة إعادة البناء بعد الحرب ودمارها. وبذلك يمكن القول إن الخطة الاستعمارية الصهيونية، التي فشلت في شطب سورية، حقّقت هدف الحدّ الأدنى، أي تأخير النمو السوري. فسوف يستغرق الشعب العربي السوري ودولته الوطنية جهودا كبيرة وسنوات غير قليلة لإعادة بناء ما دمّرته الحرب. ولكنّ طاقة الابتكار المتجدّدة ستفتح مزيدا من الفرص ومحاور النمو، لأن هذه الورشة التاريخية تجري بقيادة استراتيجية، تجيد بناء الشراكات وتوظيف الموارد، كما أنها تجسّد حزما تاريخيا في إرادة الاستقلال ومواكبة المصالح الكبرى للشعب والوطن، وتتسم بوعي استثنائي في رؤيتها للفرص الاستراتيجية، التي تؤهل كلُّ الظروف سورية لملاقاتها، واكتساب مكانة اقتصادية واستراتيجية مميزة في المنطقة والعالم، وبناء الشراكات الدولية والإقليمية، التي تقوم على احترام إرادة الاستقلال ووحدة الأهداف المشتركة.
إن هذه المعطيات تؤكد أن الحدث التاريخي، الذي تتراكم مقدماته، هو نهوض سورية جديدة. والظروف مهيأة لتسارع التحوّل الاقتصادي والسياسي الناتج عن هذه الورشة الكبرى، التي يقودها الرئيس بشار الأسد. ومن أهم مزايا ذلك المشروع التاريخي، أن سورية ما تزال مصمّمة على هويتها، فتهب بعضا من قوتها لشركاء المصير، وهي بالأصل دفعت ضريبة غالية لمصداقية التزامها بخيار تحرّري، يقوم على الشراكة الأمينة مع جميع الحلفاء. فهذه القلعة لن يطول انتظار تعافيها، الذي سيكون حافلا بالمفاجآت السعيدة للمنطقة العربية ولمحور المقاومة ولشعوب الشرق اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا.