سوريا تنتظر.. آفاق العام الجديد
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
تراكمت المؤشرات التي حصلت في العام 2021 على وجود توجهات جديدة للقوى الدولية والإقليمية إلى انفراج قادم للسوريين للخروج من كارثتهم التي تقترب من 11 عاماً على بدايتها، ما دفع الكثير منهم إلى التفاؤل باقتراب ذلك، فهل هذا الأمر حقيقي أو نسبي أو ما زال في طور البحث عنه؟
كان واضحاً منذ لحظة حصول الانتخابات الرئاسية في شهر أيار/مايو الماضي أنَّ القوى الدولية والإقليمية التي انخرطت في الحرب على سوريا ضمن المشروع الأميركي الإسرائيلي بدأت بالتعاطي مع الوقائع الجديدة على الأرض من منطلقات مختلفة، في محاولة لاحتواء المرحلة القادمة، والانتقال إلى منحى مختلف من المواجهة، بالاعتراف الضمني بنتائج الانتخابات، ثم تتابعت المؤشرات بالاتفاق الروسي الأميركي حول برامج المساعدات الإغاثية ودخولها عبر الأراضي السورية تحت سيطرة دمشق، ثم تجاوز عقوبات “قيصر” بالسماح للغاز المصري بالمرور إلى لبنان عبر سوريا، إضافةً إلى الكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر سوريا أيضاً، ثم جاءت زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد إلى دمشق، والتي ترافقت مع تسريبات عن قرب عودة دمشق إلى الجامعة العربية، بمشاركتها في مؤتمر الجزائر القادم في شهر آذار/مارس 2022.
لم تكن هذه الخطوات من قبل الأطراف مستقلة بمعزل عن الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه سوريا، وهي تستند في الأساس إلى إمكانية الانتقال إلى مرحلة جديدة لتحقيق المصالح الأميركية، وخصوصاً أن واشنطن أصبحت تحت ضغط الزمن المتضائل أمامها للتفرغ للصين، التي تشكّل التهديد الأكبر لها في تاريخها، وهي تستطيع خلال عقد من الزمن الاستحواذ على صدارة القوى الدولية العظمى، ما يجعل الولايات المتحدة في الصف الثاني، إضافةً إلى تعاظم تهديدات الانقسام الداخليّ الأميركيّ، وزيادة حِدة التهديدات الاقتصادية، بعد تجاوز الدين العام الأميركي 28 تريليون دولار، وهو يفوق حجم الناتج القومي السنوي، ويعد مرشّحاً إلى الازدياد.
ومع ذلك، إنّ استراتيجيّة التخفّف من أعباء غرب آسيا وشمال أفريقيا لم تدفع الإدارة الأميركية بعد إلى هذه المرحلة، فهي ما زالت تمتلك أوراق قوّة غير مكلفة لها للاستمرار وفق آليات الهيمنة على قرار مسار التحولات في هذه المنطقة، وخصوصاً بعد أن أصبحت أقلّ كلفة بشرية واقتصادية لها، فهي بوجود 900 جندي أميركي فقط في قاعدة التنف وشمال شرق سوري، تستطيع القيام بمزيد من الضغوط على دمشق وحلفائها، وخصوصاً أنها لم تخسر من هؤلاء الجنود سوى عدد محدود جداً، في ظل غياب مقاومة حقيقية تجاهها في هذه المناطق حتى الآن، وساعدها في هذا الأمر فوزها في الرهان على الانتخابات النيابية في العراق إلى حد كبير، وبالتالي تغيير خطتها من الانسحاب الكامل من العراق إلى صيغة جديدة غير قتالية، تبقي على جزء من قواتها في قاعدتي أربيل وعين الأسد غرب العراق بشكل مستتر، ما يجعلها قادرة على تقديم الدعم اللوجستي لقواتها في التنف والجزيرة السورية.
على الرغم من تحول سوريا إلى ملفّ أقل أهمية للإدارة الأميركية، فإنَّ هناك العديد من صناع القرار الأميركي الذين يعتبرون أنَّ أهميتها الجيوسياسية توازي تايوان وأوكرانيا، ولا ينبغي التخلي عنها في إطار صراعها مع الصين وروسيا وإيران، وخصوصاً أن “إسرائيل” والنفط والغاز تُعتبر أولوية أميركية لأسباب عقائدية ومصلحية. ومن هنا تأتي أهميتها لدى هؤلاء، بجعلها مستنقعاً جديداً لروسيا بعد أفغانستان، وفي منع التواصل مع إيران، وبالتالي مع الصين، وهذان الأمران يدخلان في صلب الاستراتيجية الأميركية في الدفاع عن نفسها.
تتأرجح السياسة الأميركية بكيفيّة التعامل مع الملف السوري، ويلفُّ استراتيجيتها الغموض حول الموقف الحقيقي من استمرار تواجدها في سوريا، وهي تستمر بإرسال الرسائل المتناقضة حول موقفها النهائي المتعلق بانسحابها من سوريا، ما دامت خسائرها محدودة ويمكن تحملها، وتميل إلى الإبقاء على الوضع السوري على ما هو عليه، بحيث لا تصل إلى مرحلة الانهيار، ولا تسمح لها بالانطلاق مجدداً في آفاق إعادة الحياة بإعادة الإعمار.
لا شكّ في أن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك زمام التحكّم في مسارات السياسة العالمية وحدها، وخصوصاً بعد أن استطاعت بكين وموسكو وطهران تحقيق الكثير من المكاسب التي مكّنت هذه العواصم من مواجهة المشروع الأميركيّ في المحيط الهندي والهادي وأوكرانيا، إضافة إلى اليمن والخليج وفلسطين وسوريا والعراق، ما أتاح لدمشق قدراً واسعاً من هامش المناورة وتوسيع خياراتها لتحقيق الكثير من المكاسب التي دفعت بها نحو التصلب والثبات على موقفها تجاه مجمل القضايا الداخلية، وخصوصاً ما يتعلّق بالاحتلال التركي ورفض الإقرار، حتى ضمنياً، بوضع إدلب واستمرارها خارج السيطرة، رغم تقاطع المصالح الروسية التركية في استمرارها بما هي عليه، وتراجع لغة الحرب والتحرير بفرض وقف إطلاق النار على مستوى كامل سوريا، إضافة إلى الملف الكردي في الشمال، حيث لم يتغير الموقف نحو القبول بواقع نشوء إدارة ذاتية، واعتبارها واقعاً انفصالياً يهدد عودة سوريا كدولة مستقلة موحّدة، إضافةً إلى موقفها المتصلّب بعدم الاعتراف باحتلال “إسرائيل” للجولان السوري، وتمسّكها بالقضية الفلسطينية التي تعتبرها مسألة وجودية، كما تدرك أنّ طهران حليف استراتيجي لا يمكن التخلّي عنه، وتعتبرها صمام أمان أمام تهديدات الأعداء وابتزاز بعض الحلفاء.
تدرك دمشق حجم المصاعب والتهديدات التي تواجهها، وتدرك أيضاً أنّ خروج سوريا من كارثة الحرب يتطلَّب سنوات طويلة من الصراعات الدولية على مجمل الكرة الأرضية، لحين استقرار نظام دولي جديد تقبل به الولايات المتحدة من موقع الهزيمة، وأنَّ هذا الأمر سينعكس بشكل تلقائي على وضعها الداخلي والخارجي، وهي تراهن على تحقيق إنجازات مرحلية تخفّف عنها شدة الحصار السياسي والعقوبات الاقتصادية، وتراهن على نتائج مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، وعلى هزيمة المملكة العربية السعودية في اليمن، ما يعجّل في تغيير البيئة الاستراتيجية لغرب آسيا بأكمله.
كما تراهن على نجاح المقاومة العراقيّة في طرد كلّ الاحتلال الأميركيّ من العراق، ما يدفع إلى إيقاف الدعم اللوجستي للجنود الأميركيين في الجزيرة السّورية، بما يفرض عودتها سلمياً إلى إطار الدولة السورية مع إمكانياتها النفطية والغازية والزراعية، ويخفف وطأة العقوبات التي أنهكت السوريين، وخصوصاً في ما أنتجته من اقتصاد موازٍ ساهم بشكل كبير في إفقارهم.
يحتاج السوريون إلى بضعة أشهر من العام 2022 حتى يتبيَّنوا إمكانية بدء الانفراج من عدمه، وهم في كل الأحوال يحتاجون إلى سياسات اقتصادية داخلية، تتيح لهم العودة التدريجية إلى الحياة الطبيعيّة، بعد أن ضاقت بهم سبل الحياة والأمل.