الدكتور محمد رقية | باحث أكاديمي وكاتب سياسي
مايؤرقني وأفكر به دائما هو كيف أن أمة مثل أمتنا قدمت قبل ألفي عام الرسالة السماوية المسيحية , رسالة المحبة والسلام والتي انتشرت في كل أنحاء العالم, وقبل 1435 عام قدمت للعالم القرآن الكريم والدين الاسلامي السمح ووصل إلى أقاصي الصين وأوروبا .
كيف ! وبعد كل هذه السنين وهذا التطور الشديد في العلم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال , أن نصل إلى هذا الدرك من الجهل والتخلف والانقياد للأعداء بتهديم أوطاننا وضرب مرتكزات أبنائنا وفعل ما لا يمكن لأحد أن يفعله من الشرور وتقطيع الأوصال, كالقطيع الذي ترعاه الذئاب . لم أستطع فهم هذه المعادلة من أمة نشرت الأديان السماوية في كل العالم إلى أمة تنهش بها كل ضباع وذئاب العالم بمساعدة بعض جلدتنا . !!!!
ولكي أستطيع أن أحل جزءا” من هذا اللغز الغريب راجعت الكثير من تاريخ هذه الأمة وخاصة في الحقبة الاسلامية ولاحظت بأن هناك سببين رئيسين ( طبعا” هناك أسباب فرعية عديدة ) أوصلا هذه الأمة إلى مانحن عليه الآن :
السبب الأول: تمثل بانتقال الخلافة الاسلامية إلى العثمانيين بعد معركة مرج دابق ضد الجيش المملوكي عام 1516م وتنازل المتوكل على الله الثالث آخر الخلفاء العباسيين الرمزيين بالخلافة للسلطان سليم الأول عام 1518 م (925 هج ) وتسلطهم علينا باسم الدين على مدى أربعمائة عام أي حتى ألغاها رسميا” مصطفى أتاتورك عام 1923م وعمليا” بعد دخول المستعمرالفرنسي سورية عام 1920. إن أصعب شيئ في الوجود هو أن يحكمك أحد أكثر منك تخلفا” وغباء وأقل منك فهما” ومعرفة , فالغبي سيجعلك أغبى منه , والحمار سيعلمك الحمرنة , وهذا ماحصل لدينا مع سلاطين العثمانية من تخلف وجهل وانقطاع عن الحضارة والتطور . وعندما ظهرت بوادر اليقظة العربية في بدايات القرن العشرين وخاصة من قبل عدد من المفكرين في لبنان وسورية وفلسطين , جاء جمال باشا السفاح الحاكم التركي لبلاد الشام في ذلك الوقت وأعدم مااستطاع من هؤلاء المتنورين بين عامي 1915 و1916 وتم إعدام الجزء الأكبر منهم في السادس من أيار من عام 1916 في ساحتي البرج (ساحة الشهداء) في بيروت وساحة المرجة بدمشق ( أصبح عيدا” للشهداء فيما بعد ) وزاد عددهم عن الخمسين مفكرا” , لكي لايجرؤ أحد أن يفكر مجرد تفكير بتطوير ذاته أوبالانفصال وبناء وطنه.
السبب الثاني مركب ومعقد ومتدرج ولا زالت آثاره تتفاعل حتى الآن , بدأ بالزرع الصهيوني البريطاني لآل سعود وآل الوهاب في بلاد نجد والحجازمنذ القرن الثامن عشر (فأصل آل سعود يعود لليهودي مردخاي ابراهيم موسى وهو من يهود الدونمة في تركيا, وكان يسكن العراق وأصل آل الوهاب الذي أنتج محمد عبد الوهاب – صاحب الفكر الوهابي النتن الذي قصم ظهر الاسلام – يعود إلى شولمان (سليمان ) القرقوزي أي البطيخ وهو من يهود الدونمة أيضا” من بلدة بورصة في تركيا – راجع كتاب تاريخ آل سعود لناصر السعيد – وبدعم من البريطانيين وسيطرة هؤلاء على أجزاء كبيرة من أرض الحجاز استلم محمد بن سعود السلطة الزمنية أي الحكم واستلم محمد عبد الوهاب السلطة الدينية وأسس مايعرف بالوهابية المناقضة بتعاليمها وتوجهاتها للدين الاسلامي وكان يفتي بقتل وتكفير كل من لا يسير للقتال معهم ولا يدفع مالديه من مال , وقتل كافة المعارضين لدعوتهم والاستيلاء على أموالهم ,واتبعوا نفس الطرق والأساليب في القتل والتدمير والتهجير التي تتبعها داعش والنصرة وتوابعهما حاليا”في سورية والعراق وليبيا واليمن …الخ , وذهب العديد من سكان نجد والحجار ضحايا نتيجة اجرامهم وتأسيس مايعرف بالمملكة العربية السعودية عام 1932م , التي رعتها بريطانيا المستعمرة بكل امكانياتها ولاحقا” الولايات المتحدة الأمريكية وموجهتها الأساسية الصهيونية العالمية .
ومنذ اتفاقية سايكس بيكو تشتغل الماكينة الصهيونية على تفتيت هذه الامة . وكان أول انجاز لعبد العزيز آل سعود هو إعطائهم صك تسليم فلسطين للصهاينة في عام 1915 , وأخذوا ينسقون مع حركة صهيون والاستعمار البريطاني حتى اغتصاب فلسطين في عام 1948 . أما في الشق الديني فقد نشروا الفكر الوهابي ليس فقط في الدول العربية وإنما في كل الدول الاسلامية عبر تجهيز جيوش من شيوخ الدين الوهابيين التكفيريين لغسل دماغ شعوب هذه الأمة على مدى أكثر من مئة عام ,وخدروا عقل جزء كبير منها . ( وحاليا” سرايا وكتائب من القنوات الفضائية الدينية , التي تعمل ليل نهار لنشر هذا الفكر النتن وبث الفرقة والضغينة بين أفراد الشعب الواحد ليصل الأمر الى أفراد الأسرة الواحدة ) واشتغلوا في الطرف المقابل على محاربة القوى الوطنية والتقدمية في البلدان العربية وفي مقدمتهم الرئيس جمال عبد الناصر. وأذكر عندما كنا طلابا” صغارا” في ستينيات القرن الماضي وننادي في التظاهرات أو المسيرات تسقط الرجعية العربية , التي كان يمثلها الحكم السعودي وكل الممالك العربية ودويلات الخليج , فقد كنا على حق فلو سقط آل سعود وهذه المهالك منذ ذلك الزمن لكانت هذه الأمة بألف خير ولما وصلنا إلى مانحن فيه اليوم . فنتيجة غسل الأدمغة وتعليب عقول الناس التي قاموا بها طيلة هذه السنين (ولا زالوا وبوتيرة أشد الآن) ازداد تخلف المجتمع العربي عقليا”, وأصبح الناس يقادون كالقطيع من قبل رجال يدّعون الدين ويتحدثون كممثلين لله على الأرض والدين منهم براء .
لكن وقع الفاس بالراس ولولا التنوع المجتمعي وعلماء بلاد الشام المتنورين لكان وضع هذه المنطقة أسوأ من ذلك بمئات المرات.
المطلوب الآن إعادة بناء الإنسان العربي بكل ماتعني هذه الكلمة من معنى والعمل سنين طويلة لإعادة تنشيط هؤلاء البشرالمتخلفين عقليا” لعودتهم إلى جادة الصواب . والوقوف بوجه الفكر الوهابي العفن وإرهابييه وداعميه من الأنظمة التي ولّدته , وايقاف مده ومحاصرته وتحجيمه تمهيدا” للقضاء عليه وعلى إرهابييه وداعميه وإعادة الحياة للدين الاسلامي الحقيقي دين الأخلاق والمحبة والسلام, ويجب العمل بكل السبل والوسائل لتحقيق هذه الأهداف النبيلة مهما بلغت التضحيات , وبدون ذلك فالامور ستسير من سيئ لأسوأ ولن يقف الأمر عند داعش وأخواتها , بل سيتفتق تفكيرهم عن المزيد من التكفيريين والارهابيين وقطعان البشر المتوحشة .
من كتابي أفكار في الأزمة