الدكتور حسن احمد حسن | باحث سوري مختص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية .
لطالما تمنيتُ الشهادة منذ عقود، وعملتُ على بلوغها، لكنْ لم يُكْتَبْ لي نصيبٌ بنيل هذا الشرف الذي لا يدانيه شرف، والمجد الباذخ الذي لا يدنو من أسوار سموه أي مجد آخر، فالشهادة قيمة القيم وذمة الذمم والمنزلة الأسمى التي لا يبلغها إلا الصفوة من أبناء الوطن والأمة.. في محراب الشهادة تتقزم الحروف… وتتلعثم الألسنة، ويقف الخطباء والمفوهون حيارى أمام أسوارها السامقة ومعانيها السامية ومكانتها الرفيعة.. في محراب الشهادة تنحني الهامات إجلالاً وإكباراً لتلك القامات الشامخة التي مدت جسوراً بدمائها الطاهرة وتضحياتها المثلى تصل أرض الصمود والكبرياء بسماء الخلود والفداء.. في محراب الشهادة يقف كلُّ أصحاب الضمائر الحية بخشوع يستذكرون عظمة العطاء الذي قدمه أشرف الشرفاء، وأطهر الأطهار، وأكرم الناس الذين ستبقى ذكراهم حاضرةً في أعماق الروح ساكنةً وجدان الأمة وضمائر أبنائها الأبرار، وكيف لا والشهداء قناديل الهدى التي تنير درب الأجيال إلى مرابع الحرية والسيادة والكرامة والعزة والفخار.. إنهم رمز العنفوان، وعنوان الإباء وقرابين الكرامة والسيادة الذين ضحّوا بأرواحهم لتحيا أوطانهم، فاستحقوا تقدير أبناء الوطن شعباً وجيشاً وقيادةً ليبقوا على الدوام ملء السمع والبصر والفؤاد، والرموز الخالدة الذين تهتف الحناجر بذكراهم وتخفق القلوب بمآثرهم، إنهم الخالدون شهداؤنا الأبرار…
ثمة تساؤلات عدة قد تخطر على الذهن لمعرفة المشاعر الحقيقية التي يعيشها المرء لحظة صعود الروح إلى باريها؛ وهل يتشابه الجميع عند خلع رداء هذه الحياة الفانية، أم أن الأمر يختلف وبخاصة عند الشهداء الذين يفتدون أوطانهم بأرواحهم؟ وما الذي يمكن أن يكتبه الشهيد لأمه.. لأبيه.. لأطفاله، ولرفاق دربه؟ وكيف سيرد هؤلاء على ما يكتبه الشهيد لحظة بلوغ الشهادة؟
تساؤلاتٌ عدة قد تبدو خارج إطار التداول، لكن سأبيح لذاتي تقمص حالة الشهيد، وأتخيل ما الذي يمكن للشهيد أن يكتبه في بضع ثوانٍ قد تمتد لتكون دهراً وهي تروي الإحساس بمتعة التضحية التي لا يعرفها إلا أشرف شرفاء الأمة.
رسالة شهيدٍ إلى والده:
والدي العزيز! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كم أتمنى لو أني أستطيع الآن تقبيل يديك الطاهرتين اللتين لطالما أحاطتاني بالرعاية والعطف والحنان… كم أتمنى أن تشفع لي عندك أيها الأب الغالي هذه الدماء التي تنزف من جسدي في هذه اللحظة فتروي ثرى الوطن، وأن تكون سلماً أرتقي درجاته لألقي برأسي في حضنك العامر بالمحبة والإيمان بالله والوطن… وقد يمتد بي الحلم لأطمح بأن أحتضن رأسك المرفوع دائماً وأهمس في تلافيف دماغك قائلاً: قرَّ عيناً والدي الكريم، فها أنتَ قد أصبحت ممن يحق لهم أن يفخروا بأن أبناءه شهداء… القرية الوادعة الآمنة المطمئنة المتربعة في سفح هذا الجبل أو عند ذاك السهل لهم، أو بالقرب من وادٍ لطالما أذاق المستعمرين ويلات صمود أبناء الوطن وإصرارهم على أن يبقى هذا الثرى الطاهر أبياً عصياً على المتآمرين وأدواتهم التنفيذية… هذه القرية الوادعة يحق لها أن تتباهى كغيرها من قرى سورية الأبية، وأن تضيف إلى سجل هذه المدينة أو تلك اسماً جديداً ضحى بروحه ليعيش أبناء الوطن بأمنٍ وسلام وسكينةٍ وطمأنينة، فها هو ابنكَ الذي ربيته قد كبر وصلب عوده وأضحى مقاتلاً في صفوف الجيش العربي السوري البطل، وها هو اليوم يؤدي واجبه في الدفاع عن أمن الوطن وضمان مستقبل أبنائه.
قرَّ عيناً والدي الكريم فالقسم الذي أقسمه ابنك مع رفاقه في القوات المسلحة الباسلة سيبقى قسماً مبروراً، ولن يَحْنُثَ به أبداً… قرَّ عيناً يا رمز الرجولة، فالوردة التي سقيتَها بعرقك ها هي اليوم تغدو خميلةَ ورودٍ ومروجَ أقحوانٍ يعطّر سماء الوطن وأرضه، ويضيف اسماً جديداً إلى سجل الخالدين…
لطالما ربيتني على الشجاعة والرجولة والوفاء والإقدام، ولطالما أذكيت في أعماقي حب التضحية والشهادة والفداء، وكفاني فخراً أنني تلميذٌ نجيب تتلمذ على يديك، وسار إلى جانبك في مدرسة حب الوطن والاستماتة في سبيله.
لطالما قلت لي أن الوطن لا يكبر إلا بأبنائه، وأنه أحوج ما يكون إلى الرجال الذين يجسدون الرجولة بأسمى معانيها وأروع صورها وهم الشهداء… لطالما همست في أذني في كل مرةٍ أكون فيها في القرية، وقبل أن أعود إلى مكان خدمتي العسكرية قائلاً لي: إنك تأمل أن يكرِّمك الله بإحدى الحسنيين: إما أن تبلغ الشهادة وإما أن تكون والد شهيد، وها أنا أحقق لك هذا الحلم ثانيةً، ويحق لي أن أفخر بأنني ألج في هذه اللحظات باب الشهادة لأصبح شهيداً وشقيق شهيد، فافخر أيها الأب العظيم بأنك والد الشهيدين.
رسالة شهيدٍ إلى أمه:
أمي الغالية! يا رمز الرقة والعطف والحنان والإنسانية التي لا حدود لها!… يا ينبوع عظمةٍ ورقَّةٍ ومحبةٍ لا تتكسر معانيها السامية على صخرة الحزن وحراب الفراق التي عادةً ما تنهش القلوب والأرواح… أماه يا أجل وأقدس وأسنى وأبهى ملاكٍ في الكون… يا عنوان العطاء الدائم، ورمز الحنان الذي لا ينفذ… يا صدراً لطالما غمرني بحبه ورعايته وحنانه وإنسانيته…
أماه يا أروع سيمفونيةٍ عزفت بها حناجر جميع المخلوقات… أعتذر سلفاً وأقبل يديكِ الطاهرتين ومنديلك المكلل بالغار والياسمين… أستميحكِ عذراً إن كنتُ رحلت قبل أن أودعكِ… أدرك كم هو مؤلمٌ أن يغيب الابن عن نظر والدته وإلى غير رجعة، وأدرك أيضاً كم يكون الجرح نازفاً وعميقاً في قلب كل أم تفقد إحدى فلذات كبدها.. لكني أدرك أيضاً كم هي المكانة التي يحتلها الشهيد رفيعةً، وكم يحق للأم أن تفخر بأن ابنها شهيد… أعلم أنك تأملين أن أكون إلى جانبك بعد أن تكبري لتستعيني بي على الشيخوخة، لكني أدرك أيضاً أن الحياة بلا كرامة لا تستحق أن تعاش… أنتِ التي زرعتِ في أعماقي معاني الرجولة والشهامة والإقدام ليبقى العرض مصاناً من دنس العابثين… بئسَ الحياةُ التي يسرح فيها بعض الخونة المأجورون كما يشاؤون… يعيثون قتلاً وفساداً وتخريباً واعتداءً على الممتلكات العامة والخاصة… لا أستطيع أن أرى أو أن أسمع بثلةٍ من المجرمين ينتهكون عرضاً لأنه قد يكون عرض أمي أو أختي أو ابنتي أو زوجتي أوأية مواطنةٍ سورية، فكل مواطنة سورية هي أختٌ لي وواجب علي أن أحميها من شر أولئك المأجورين…
عذراً أماه الغالية… لقد آثرت الرحيل وإلى غير رجعة لأن الواجب ناداني، وأنا على يقين أنك تُكْبـِرِيْنَ فـيَّ تلبية نداء الواجب… ولطالما كنت تتحدثين عن عظمة الأنوثة السورية التي حوّلت مواكب الشهداء إلى أعراس وطن، حيث تستقبل الجثامين الطاهرة بالزغاريد لا بالدموع، ويتقبل أهالي الشهيد المباركة والتهنئة باستشهاد ولدهم لا العزاء بفقدانه، لأن الشهداء خالدون عند الله والبشر…
أماه الحنونة!… كأني بك تفكرين إن كنتُ تعذبتُ وأنا أفارقُ الحياة، فاطمئني يا رمز الحنان والإنسانية… بكلِّ رفق ولطف وحنان خرجت الروح من جسدي… تذكرت طفولتي الأولى آنذاك، وكيف كنت أمتص حليب الكرامة والكبرياء والأثرة والعطاء من صدرك الثرِّ الزاخر بكل معاني السخاء بلا حدود… بالطريقة ذاتها غادرتُ هذه الدنيا الفانية، مَلَكُ الموت كان رحيماً شفوقاً.. قبض الروح بلطف قبل أن يفكر أعداء الله والوطن بالتمثيل بجسدي، فلا تحزني ولا تبكي، لأني لم أشعر بالألم ولا بالعذاب، بل على العكس تماماً… صورٌ شتى رائعة عرضت علي واخترت ما يناسبني لأنتقل من دار العناء إلى دار الخلود، وطيف روحي سيبقى يرفرف حولك لتطمئن الروح المخلدة عليكِ، وليستمد منكِ أخوتي وأبناء جيلي معاني الصبر والجلد والتسامي فوق الجراح كي يزهر الوطن، وينعم أطفاله بمستقبلٍ آمنٍ مشرق…
رسالة شهيدٍ إلى ابنه:
بُنيَّ الغالي.. يا أجمل هديةٍ في الكون وهبني إياها الخالق… يا بسمة الأمل التي زرعها الله على وجهي عندما أطلقْتَ صرخَتَك الأولى وأنتَ تفتحُ عينيكَ على النور… إيهٍ بني الحبيب!.. قد تصلك كلماتي هذه في وقتٍ أنت أحوج ما تكون لأن تركض باتجاهي وتلقي بنفسك في حضن أبيك… تشتم رائحة عرقه، وتكرر قولتك المشهورة: عرق الرجال أزكى عطر في الكون… لكأني بك تمسك بثيابي العسكرية تشتم رائحتها وتمسح وجهك النضر بها وتقول: انتظرني قليلاً، سنوات عدة فقط وسأرتدي هذه البزة العسكرية وأكون رفيقك في السلاح، وأنا على يقين أنك ستنجز ذلك…
بنيَّ الغالي لك قبلاتي وأشواقي وحبي الذي لا يعرف حدوداً… مراراً كنت تقول لزملائك هنيئاً لابن عمي لأنه أصبح ابن شهيد، فمن حقه أن يفخر ويتباهى لأن والده استشهد كي نعيش نحن بأمان… وها أنت اليوم تدخل هذه الحديقة الغناء التي تجمع أبناء الشهداء، فحذارِ أن تذرف دموعك… وحذارِ أن تظهر يوماً بمظهر اليتيم، فأنت اليوم ابن الوطن الذي يكرِّمُ شهداءه بأجلَّ ما عرفته البشرية من تكريم…
إيهٍ بني الحبيب!… ها أنت اليوم تتحمل مسؤولية متابعة الدرب، فالأمانة حُمِّلَتْ على كتفيك، وأنت أهلٌ لها… آمل أن تبقى كما عهدتك متفوقاً في دراستك، لأن التفوق في التحصيل العلمي هو الوجه الآخر للتضحية والفداء… لا تنسَ أيها الأملُ المتوثب أن تمسح كل صباح على شعر شقيقتك، وأن تضم شقيقك الأصغر وتمضوا جميعاً إلى المدرسة مودعين أمكم بقبلاتكم الطفولية الممزوجة بعبق الشيح والطيون والبنفسج والنرجس البلدي المزدان بوعودكم بأن تكونوا الخلف الصالح الذي يفخر بانتمائه لهذا الوطن الشامخ الأبي…
تذكر دوماً بني الحبيب أن والدك استشهد دفاعاً عن الوطن وأطفال الوطن وحاضر الوطن ومستقبله…تذكر أن والدك ورفاقه الشهداء الأبطال قد قهروا الإرهاب التكفيري ورعاته وداعميه لتبقى سورية عرين الأسود، وتذكر أن تكامل الأدوار يُحَمِّلُ الراية للنشئ الجديد من أبناء جيلكم من الشباب المتوثب لصون الأمانة وتأدية الرسالة وإكمال درب التضحية والفداء لتبقى راية الوطن خفاقة في سماء المجد والعزة والسؤدد والخلود.
رسالةٌ جوابية:
إليكَ أيها الشهيد الخالد في الفردوس الأعلى… إليكَ يا قنديلاً ينير الدرب أمام الأجيال المؤمنة بحقها في الدفاع عن الوطن وتحصين سيادته… إليكَ تحية الحب والإجلال والإكبار من الوطن بجميع مكوناته… فَلَكَ ولرفاقك ترفع أسمى آيات التقدير والعرفان بتضحياتكم التي تفوق كل وصف… لكم المحبة والتقدير والمكانة الرفيعة في قلوب جميع أبناء الوطن: كلِّ أب، كلِّ أم، كلِّ أخت، كلِّ أخ، كلِّ ابن، كلِّ ابنة، كل صديق، كل رفيق درب… لكم التحية من كل زهرةٍ من أزهار هذا الوطن، من كلِّ زنبقة وسوسنة، من كلِّ شجرةٍ وجدول ماء، من كلِّ ذرة تراب وحصاة… لكم التحية والإجلال والتقدير من شعبكم الأبي الذي يشد عضده بكم يا حماة الديار وعنوان الكرامة ورمز الشجاعة وأسَّ البطولة ومنطلق التضحية والبذل والعطاء والسخاء… بدمائكم الزكية استطعنا أن نحمي وحدة الوطن… بأرواحكم الطاهرة أسقطنا المؤامرة والمتآمرين… بتضحياتكم أيها الخالدون بقيت ابتسامات أطفال الوطن مرسومة على محياهم… جراحكم النازفة ودماؤكم التي روت ثرى هذا الوطن الأبي زادته منعةً وصموداً وقدرةً وفاعلية…
أيها الشهداء الخالدون!
أنتم الأبقى وإن رحلت أجسادكم الطاهرة، فذكركم العطر سيبقى حاضراً في كل بيت… بطولاتكم ستبقى حديث الأجيال… إرثكم النضالي المشرف سيبقى جزءاً أساسياً مكوناً في ثقافة السوريين… فلتقرَّ أعينكم وأنتم في فردوس خلدكم… لتطمئن أرواحكم الطاهرة فأبناؤكم موضع اهتمام القيادة ورعايتها… أهلكم هم أهلُ كل أبناء الوطن، وسيبقون دائماً محاطين بكل احترامٍ وتقديرٍ وتبجيل لأنهم أنجبوكم أيها الأبطال الذين بدماؤكم وتضحياتكم حافظ الوطن على وحدته وسيادته وكرامته… فإليكم يا أكرم الكرماء وأشرف الشرفاء… إليكم يا قناديلنا إذا ادلهمت الظلمة… إليكم يا مشاعل النور والهدى ترفع أسمى آيات التقدير والتبجيل، وتنحني الهامات أمام عظمة تضحياتكم أيها الخالدون.. فلتطمئن أرواحكم الطاهرة في فردوس عليائها إلى أن الأهداف النبيلة والسامية التي استشهدتم من أجلها ستبقى في أرواحنا ووجداننا وفكرنا.. سنحول بطولاتكم وتضحياتكم من ذكرى إلى ذاكرة، وسورية الأسد التي عُرِفَتْ بوطن الشهداء أصبحت موطن الشهادة وقيمها، ولكي تبقى سوريتنا حصينة منيعة سنثبت للعالم برمته في السادس والعشرين من أيار أن الاستحقاق الدستوري المقرر للانتخابات الرئاسية سيكون الشاهد على وفاء السوريين لقيم السيادة والكرامة والعزة الوطنية التي استشهدتم في سبيل صونها والدفاع عنها.. فالنهج مستمر، والأمانة محفوظة يا شهداءنا الأبرار.، وعملتُ على بلوغها، لكنْ لم يُكْتَبْ لي نصيبٌ بنيل هذا الشرف الذي لا يدانيه شرف، والمجد الباذخ الذي لا يدنو من أسوار سموه أي مجد آخر، فالشهادة قيمة القيم وذمة الذمم والمنزلة الأسمى التي لا يبلغها إلا الصفوة من أبناء الوطن والأمة.. في محراب الشهادة تتقزم الحروف… وتتلعثم الألسنة، ويقف الخطباء والمفوهون حيارى أمام أسوارها السامقة ومعانيها السامية ومكانتها الرفيعة.. في محراب الشهادة تنحني الهامات إجلالاً وإكباراً لتلك القامات الشامخة التي مدت جسوراً بدمائها الطاهرة وتضحياتها المثلى تصل أرض الصمود والكبرياء بسماء الخلود والفداء.. في محراب الشهادة يقف كلُّ أصحاب الضمائر الحية بخشوع يستذكرون عظمة العطاء الذي قدمه أشرف الشرفاء، وأطهر الأطهار، وأكرم الناس الذين ستبقى ذكراهم حاضرةً في أعماق الروح ساكنةً وجدان الأمة وضمائر أبنائها الأبرار، وكيف لا والشهداء قناديل الهدى التي تنير درب الأجيال إلى مرابع الحرية والسيادة والكرامة والعزة والفخار.. إنهم رمز العنفوان، وعنوان الإباء وقرابين الكرامة والسيادة الذين ضحّوا بأرواحهم لتحيا أوطانهم، فاستحقوا تقدير أبناء الوطن شعباً وجيشاً وقيادةً ليبقوا على الدوام ملء السمع والبصر والفؤاد، والرموز الخالدة الذين تهتف الحناجر بذكراهم وتخفق القلوب بمآثرهم، إنهم الخالدون شهداؤنا الأبرار…
ثمة تساؤلات عدة قد تخطر على الذهن لمعرفة المشاعر الحقيقية التي يعيشها المرء لحظة صعود الروح إلى باريها؛ وهل يتشابه الجميع عند خلع رداء هذه الحياة الفانية، أم أن الأمر يختلف وبخاصة عند الشهداء الذين يفتدون أوطانهم بأرواحهم؟ وما الذي يمكن أن يكتبه الشهيد لأمه.. لأبيه.. لأطفاله، ولرفاق دربه؟ وكيف سيرد هؤلاء على ما يكتبه الشهيد لحظة بلوغ الشهادة؟
تساؤلاتٌ عدة قد تبدو خارج إطار التداول، لكن سأبيح لذاتي تقمص حالة الشهيد، وأتخيل ما الذي يمكن للشهيد أن يكتبه في بضع ثوانٍ قد تمتد لتكون دهراً وهي تروي الإحساس بمتعة التضحية التي لا يعرفها إلا أشرف شرفاء الأمة.
رسالة شهيدٍ إلى والده:
والدي العزيز! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كم أتمنى لو أني أستطيع الآن تقبيل يديك الطاهرتين اللتين لطالما أحاطتاني بالرعاية والعطف والحنان… كم أتمنى أن تشفع لي عندك أيها الأب الغالي هذه الدماء التي تنزف من جسدي في هذه اللحظة فتروي ثرى الوطن، وأن تكون سلماً أرتقي درجاته لألقي برأسي في حضنك العامر بالمحبة والإيمان بالله والوطن… وقد يمتد بي الحلم لأطمح بأن أحتضن رأسك المرفوع دائماً وأهمس في تلافيف دماغك قائلاً: قرَّ عيناً والدي الكريم، فها أنتَ قد أصبحت ممن يحق لهم أن يفخروا بأن أبناءه شهداء… القرية الوادعة الآمنة المطمئنة المتربعة في سفح هذا الجبل أو عند ذاك السهل لهم، أو بالقرب من وادٍ لطالما أذاق المستعمرين ويلات صمود أبناء الوطن وإصرارهم على أن يبقى هذا الثرى الطاهر أبياً عصياً على المتآمرين وأدواتهم التنفيذية… هذه القرية الوادعة يحق لها أن تتباهى كغيرها من قرى سورية الأبية، وأن تضيف إلى سجل هذه المدينة أو تلك اسماً جديداً ضحى بروحه ليعيش أبناء الوطن بأمنٍ وسلام وسكينةٍ وطمأنينة، فها هو ابنكَ الذي ربيته قد كبر وصلب عوده وأضحى مقاتلاً في صفوف الجيش العربي السوري البطل، وها هو اليوم يؤدي واجبه في الدفاع عن أمن الوطن وضمان مستقبل أبنائه.
قرَّ عيناً والدي الكريم فالقسم الذي أقسمه ابنك مع رفاقه في القوات المسلحة الباسلة سيبقى قسماً مبروراً، ولن يَحْنُثَ به أبداً… قرَّ عيناً يا رمز الرجولة، فالوردة التي سقيتَها بعرقك ها هي اليوم تغدو خميلةَ ورودٍ ومروجَ أقحوانٍ يعطّر سماء الوطن وأرضه، ويضيف اسماً جديداً إلى سجل الخالدين…
لطالما ربيتني على الشجاعة والرجولة والوفاء والإقدام، ولطالما أذكيت في أعماقي حب التضحية والشهادة والفداء، وكفاني فخراً أنني تلميذٌ نجيب تتلمذ على يديك، وسار إلى جانبك في مدرسة حب الوطن والاستماتة في سبيله.
لطالما قلت لي أن الوطن لا يكبر إلا بأبنائه، وأنه أحوج ما يكون إلى الرجال الذين يجسدون الرجولة بأسمى معانيها وأروع صورها وهم الشهداء… لطالما همست في أذني في كل مرةٍ أكون فيها في القرية، وقبل أن أعود إلى مكان خدمتي العسكرية قائلاً لي: إنك تأمل أن يكرِّمك الله بإحدى الحسنيين: إما أن تبلغ الشهادة وإما أن تكون والد شهيد، وها أنا أحقق لك هذا الحلم ثانيةً، ويحق لي أن أفخر بأنني ألج في هذه اللحظات باب الشهادة لأصبح شهيداً وشقيق شهيد، فافخر أيها الأب العظيم بأنك والد الشهيدين.
رسالة شهيدٍ إلى أمه:
أمي الغالية! يا رمز الرقة والعطف والحنان والإنسانية التي لا حدود لها!… يا ينبوع عظمةٍ ورقَّةٍ ومحبةٍ لا تتكسر معانيها السامية على صخرة الحزن وحراب الفراق التي عادةً ما تنهش القلوب والأرواح… أماه يا أجل وأقدس وأسنى وأبهى ملاكٍ في الكون… يا عنوان العطاء الدائم، ورمز الحنان الذي لا ينفذ… يا صدراً لطالما غمرني بحبه ورعايته وحنانه وإنسانيته…
أماه يا أروع سيمفونيةٍ عزفت بها حناجر جميع المخلوقات… أعتذر سلفاً وأقبل يديكِ الطاهرتين ومنديلك المكلل بالغار والياسمين… أستميحكِ عذراً إن كنتُ رحلت قبل أن أودعكِ… أدرك كم هو مؤلمٌ أن يغيب الابن عن نظر والدته وإلى غير رجعة، وأدرك أيضاً كم يكون الجرح نازفاً وعميقاً في قلب كل أم تفقد إحدى فلذات كبدها.. لكني أدرك أيضاً كم هي المكانة التي يحتلها الشهيد رفيعةً، وكم يحق للأم أن تفخر بأن ابنها شهيد… أعلم أنك تأملين أن أكون إلى جانبك بعد أن تكبري لتستعيني بي على الشيخوخة، لكني أدرك أيضاً أن الحياة بلا كرامة لا تستحق أن تعاش… أنتِ التي زرعتِ في أعماقي معاني الرجولة والشهامة والإقدام ليبقى العرض مصاناً من دنس العابثين… بئسَ الحياةُ التي يسرح فيها بعض الخونة المأجورون كما يشاؤون… يعيثون قتلاً وفساداً وتخريباً واعتداءً على الممتلكات العامة والخاصة… لا أستطيع أن أرى أو أن أسمع بثلةٍ من المجرمين ينتهكون عرضاً لأنه قد يكون عرض أمي أو أختي أو ابنتي أو زوجتي أوأية مواطنةٍ سورية، فكل مواطنة سورية هي أختٌ لي وواجب علي أن أحميها من شر أولئك المأجورين…
عذراً أماه الغالية… لقد آثرت الرحيل وإلى غير رجعة لأن الواجب ناداني، وأنا على يقين أنك تُكْبـِرِيْنَ فـيَّ تلبية نداء الواجب… ولطالما كنت تتحدثين عن عظمة الأنوثة السورية التي حوّلت مواكب الشهداء إلى أعراس وطن، حيث تستقبل الجثامين الطاهرة بالزغاريد لا بالدموع، ويتقبل أهالي الشهيد المباركة والتهنئة باستشهاد ولدهم لا العزاء بفقدانه، لأن الشهداء خالدون عند الله والبشر…
أماه الحنونة!… كأني بك تفكرين إن كنتُ تعذبتُ وأنا أفارقُ الحياة، فاطمئني يا رمز الحنان والإنسانية… بكلِّ رفق ولطف وحنان خرجت الروح من جسدي… تذكرت طفولتي الأولى آنذاك، وكيف كنت أمتص حليب الكرامة والكبرياء والأثرة والعطاء من صدرك الثرِّ الزاخر بكل معاني السخاء بلا حدود… بالطريقة ذاتها غادرتُ هذه الدنيا الفانية، مَلَكُ الموت كان رحيماً شفوقاً.. قبض الروح بلطف قبل أن يفكر أعداء الله والوطن بالتمثيل بجسدي، فلا تحزني ولا تبكي، لأني لم أشعر بالألم ولا بالعذاب، بل على العكس تماماً… صورٌ شتى رائعة عرضت علي واخترت ما يناسبني لأنتقل من دار العناء إلى دار الخلود، وطيف روحي سيبقى يرفرف حولك لتطمئن الروح المخلدة عليكِ، وليستمد منكِ أخوتي وأبناء جيلي معاني الصبر والجلد والتسامي فوق الجراح كي يزهر الوطن، وينعم أطفاله بمستقبلٍ آمنٍ مشرق…
رسالة شهيدٍ إلى ابنه:
بُنيَّ الغالي.. يا أجمل هديةٍ في الكون وهبني إياها الخالق… يا بسمة الأمل التي زرعها الله على وجهي عندما أطلقْتَ صرخَتَك الأولى وأنتَ تفتحُ عينيكَ على النور… إيهٍ بني الحبيب!.. قد تصلك كلماتي هذه في وقتٍ أنت أحوج ما تكون لأن تركض باتجاهي وتلقي بنفسك في حضن أبيك… تشتم رائحة عرقه، وتكرر قولتك المشهورة: عرق الرجال أزكى عطر في الكون… لكأني بك تمسك بثيابي العسكرية تشتم رائحتها وتمسح وجهك النضر بها وتقول: انتظرني قليلاً، سنوات عدة فقط وسأرتدي هذه البزة العسكرية وأكون رفيقك في السلاح، وأنا على يقين أنك ستنجز ذلك…
بنيَّ الغالي لك قبلاتي وأشواقي وحبي الذي لا يعرف حدوداً… مراراً كنت تقول لزملائك هنيئاً لابن عمي لأنه أصبح ابن شهيد، فمن حقه أن يفخر ويتباهى لأن والده استشهد كي نعيش نحن بأمان… وها أنت اليوم تدخل هذه الحديقة الغناء التي تجمع أبناء الشهداء، فحذارِ أن تذرف دموعك… وحذارِ أن تظهر يوماً بمظهر اليتيم، فأنت اليوم ابن الوطن الذي يكرِّمُ شهداءه بأجلَّ ما عرفته البشرية من تكريم…
إيهٍ بني الحبيب!… ها أنت اليوم تتحمل مسؤولية متابعة الدرب، فالأمانة حُمِّلَتْ على كتفيك، وأنت أهلٌ لها… آمل أن تبقى كما عهدتك متفوقاً في دراستك، لأن التفوق في التحصيل العلمي هو الوجه الآخر للتضحية والفداء… لا تنسَ أيها الأملُ المتوثب أن تمسح كل صباح على شعر شقيقتك، وأن تضم شقيقك الأصغر وتمضوا جميعاً إلى المدرسة مودعين أمكم بقبلاتكم الطفولية الممزوجة بعبق الشيح والطيون والبنفسج والنرجس البلدي المزدان بوعودكم بأن تكونوا الخلف الصالح الذي يفخر بانتمائه لهذا الوطن الشامخ الأبي…
تذكر دوماً بني الحبيب أن والدك استشهد دفاعاً عن الوطن وأطفال الوطن وحاضر الوطن ومستقبله…تذكر أن والدك ورفاقه الشهداء الأبطال قد قهروا الإرهاب التكفيري ورعاته وداعميه لتبقى سورية عرين الأسود، وتذكر أن تكامل الأدوار يُحَمِّلُ الراية للنشئ الجديد من أبناء جيلكم من الشباب المتوثب لصون الأمانة وتأدية الرسالة وإكمال درب التضحية والفداء لتبقى راية الوطن خفاقة في سماء المجد والعزة والسؤدد والخلود.
رسالةٌ جوابية:
إليكَ أيها الشهيد الخالد في الفردوس الأعلى… إليكَ يا قنديلاً ينير الدرب أمام الأجيال المؤمنة بحقها في الدفاع عن الوطن وتحصين سيادته… إليكَ تحية الحب والإجلال والإكبار من الوطن بجميع مكوناته… فَلَكَ ولرفاقك ترفع أسمى آيات التقدير والعرفان بتضحياتكم التي تفوق كل وصف… لكم المحبة والتقدير والمكانة الرفيعة في قلوب جميع أبناء الوطن: كلِّ أب، كلِّ أم، كلِّ أخت، كلِّ أخ، كلِّ ابن، كلِّ ابنة، كل صديق، كل رفيق درب… لكم التحية من كل زهرةٍ من أزهار هذا الوطن، من كلِّ زنبقة وسوسنة، من كلِّ شجرةٍ وجدول ماء، من كلِّ ذرة تراب وحصاة… لكم التحية والإجلال والتقدير من شعبكم الأبي الذي يشد عضده بكم يا حماة الديار وعنوان الكرامة ورمز الشجاعة وأسَّ البطولة ومنطلق التضحية والبذل والعطاء والسخاء… بدمائكم الزكية استطعنا أن نحمي وحدة الوطن… بأرواحكم الطاهرة أسقطنا المؤامرة والمتآمرين… بتضحياتكم أيها الخالدون بقيت ابتسامات أطفال الوطن مرسومة على محياهم… جراحكم النازفة ودماؤكم التي روت ثرى هذا الوطن الأبي زادته منعةً وصموداً وقدرةً وفاعلية…
أيها الشهداء الخالدون!
أنتم الأبقى وإن رحلت أجسادكم الطاهرة، فذكركم العطر سيبقى حاضراً في كل بيت… بطولاتكم ستبقى حديث الأجيال… إرثكم النضالي المشرف سيبقى جزءاً أساسياً مكوناً في ثقافة السوريين… فلتقرَّ أعينكم وأنتم في فردوس خلدكم… لتطمئن أرواحكم الطاهرة فأبناؤكم موضع اهتمام القيادة ورعايتها… أهلكم هم أهلُ كل أبناء الوطن، وسيبقون دائماً محاطين بكل احترامٍ وتقديرٍ وتبجيل لأنهم أنجبوكم أيها الأبطال الذين بدماؤكم وتضحياتكم حافظ الوطن على وحدته وسيادته وكرامته… فإليكم يا أكرم الكرماء وأشرف الشرفاء… إليكم يا قناديلنا إذا ادلهمت الظلمة… إليكم يا مشاعل النور والهدى ترفع أسمى آيات التقدير والتبجيل، وتنحني الهامات أمام عظمة تضحياتكم أيها الخالدون.. فلتطمئن أرواحكم الطاهرة في فردوس عليائها إلى أن الأهداف النبيلة والسامية التي استشهدتم من أجلها ستبقى في أرواحنا ووجداننا وفكرنا.. سنحول بطولاتكم وتضحياتكم من ذكرى إلى ذاكرة، وسورية الأسد التي عُرِفَتْ بوطن الشهداء أصبحت موطن الشهادة وقيمها، ولكي تبقى سوريتنا حصينة منيعة سنثبت للعالم برمته في السادس والعشرين من أيار أن الاستحقاق الدستوري المقرر للانتخابات الرئاسية سيكون الشاهد على وفاء السوريين لقيم السيادة والكرامة والعزة الوطنية التي استشهدتم في سبيل صونها والدفاع عنها.. فالنهج مستمر، والأمانة محفوظة يا شهداءنا الأبرار.، وعملتُ على بلوغها، لكنْ لم يُكْتَبْ لي نصيبٌ بنيل هذا الشرف الذي لا يدانيه شرف، والمجد الباذخ الذي لا يدنو من أسوار سموه أي مجد آخر، فالشهادة قيمة القيم وذمة الذمم والمنزلة الأسمى التي لا يبلغها إلا الصفوة من أبناء الوطن والأمة.. في محراب الشهادة تتقزم الحروف… وتتلعثم الألسنة، ويقف الخطباء والمفوهون حيارى أمام أسوارها السامقة ومعانيها السامية ومكانتها الرفيعة.. في محراب الشهادة تنحني الهامات إجلالاً وإكباراً لتلك القامات الشامخة التي مدت جسوراً بدمائها الطاهرة وتضحياتها المثلى تصل أرض الصمود والكبرياء بسماء الخلود والفداء.. في محراب الشهادة يقف كلُّ أصحاب الضمائر الحية بخشوع يستذكرون عظمة العطاء الذي قدمه أشرف الشرفاء، وأطهر الأطهار، وأكرم الناس الذين ستبقى ذكراهم حاضرةً في أعماق الروح ساكنةً وجدان الأمة وضمائر أبنائها الأبرار، وكيف لا والشهداء قناديل الهدى التي تنير درب الأجيال إلى مرابع الحرية والسيادة والكرامة والعزة والفخار.. إنهم رمز العنفوان، وعنوان الإباء وقرابين الكرامة والسيادة الذين ضحّوا بأرواحهم لتحيا أوطانهم، فاستحقوا تقدير أبناء الوطن شعباً وجيشاً وقيادةً ليبقوا على الدوام ملء السمع والبصر والفؤاد، والرموز الخالدة الذين تهتف الحناجر بذكراهم وتخفق القلوب بمآثرهم، إنهم الخالدون شهداؤنا الأبرار…
ثمة تساؤلات عدة قد تخطر على الذهن لمعرفة المشاعر الحقيقية التي يعيشها المرء لحظة صعود الروح إلى باريها؛ وهل يتشابه الجميع عند خلع رداء هذه الحياة الفانية، أم أن الأمر يختلف وبخاصة عند الشهداء الذين يفتدون أوطانهم بأرواحهم؟ وما الذي يمكن أن يكتبه الشهيد لأمه.. لأبيه.. لأطفاله، ولرفاق دربه؟ وكيف سيرد هؤلاء على ما يكتبه الشهيد لحظة بلوغ الشهادة؟
تساؤلاتٌ عدة قد تبدو خارج إطار التداول، لكن سأبيح لذاتي تقمص حالة الشهيد، وأتخيل ما الذي يمكن للشهيد أن يكتبه في بضع ثوانٍ قد تمتد لتكون دهراً وهي تروي الإحساس بمتعة التضحية التي لا يعرفها إلا أشرف شرفاء الأمة.
رسالة شهيدٍ إلى والده:
والدي العزيز! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كم أتمنى لو أني أستطيع الآن تقبيل يديك الطاهرتين اللتين لطالما أحاطتاني بالرعاية والعطف والحنان… كم أتمنى أن تشفع لي عندك أيها الأب الغالي هذه الدماء التي تنزف من جسدي في هذه اللحظة فتروي ثرى الوطن، وأن تكون سلماً أرتقي درجاته لألقي برأسي في حضنك العامر بالمحبة والإيمان بالله والوطن… وقد يمتد بي الحلم لأطمح بأن أحتضن رأسك المرفوع دائماً وأهمس في تلافيف دماغك قائلاً: قرَّ عيناً والدي الكريم، فها أنتَ قد أصبحت ممن يحق لهم أن يفخروا بأن أبناءه شهداء… القرية الوادعة الآمنة المطمئنة المتربعة في سفح هذا الجبل أو عند ذاك السهل لهم، أو بالقرب من وادٍ لطالما أذاق المستعمرين ويلات صمود أبناء الوطن وإصرارهم على أن يبقى هذا الثرى الطاهر أبياً عصياً على المتآمرين وأدواتهم التنفيذية… هذه القرية الوادعة يحق لها أن تتباهى كغيرها من قرى سورية الأبية، وأن تضيف إلى سجل هذه المدينة أو تلك اسماً جديداً ضحى بروحه ليعيش أبناء الوطن بأمنٍ وسلام وسكينةٍ وطمأنينة، فها هو ابنكَ الذي ربيته قد كبر وصلب عوده وأضحى مقاتلاً في صفوف الجيش العربي السوري البطل، وها هو اليوم يؤدي واجبه في الدفاع عن أمن الوطن وضمان مستقبل أبنائه.
قرَّ عيناً والدي الكريم فالقسم الذي أقسمه ابنك مع رفاقه في القوات المسلحة الباسلة سيبقى قسماً مبروراً، ولن يَحْنُثَ به أبداً… قرَّ عيناً يا رمز الرجولة، فالوردة التي سقيتَها بعرقك ها هي اليوم تغدو خميلةَ ورودٍ ومروجَ أقحوانٍ يعطّر سماء الوطن وأرضه، ويضيف اسماً جديداً إلى سجل الخالدين…
لطالما ربيتني على الشجاعة والرجولة والوفاء والإقدام، ولطالما أذكيت في أعماقي حب التضحية والشهادة والفداء، وكفاني فخراً أنني تلميذٌ نجيب تتلمذ على يديك، وسار إلى جانبك في مدرسة حب الوطن والاستماتة في سبيله.
لطالما قلت لي أن الوطن لا يكبر إلا بأبنائه، وأنه أحوج ما يكون إلى الرجال الذين يجسدون الرجولة بأسمى معانيها وأروع صورها وهم الشهداء… لطالما همست في أذني في كل مرةٍ أكون فيها في القرية، وقبل أن أعود إلى مكان خدمتي العسكرية قائلاً لي: إنك تأمل أن يكرِّمك الله بإحدى الحسنيين: إما أن تبلغ الشهادة وإما أن تكون والد شهيد، وها أنا أحقق لك هذا الحلم ثانيةً، ويحق لي أن أفخر بأنني ألج في هذه اللحظات باب الشهادة لأصبح شهيداً وشقيق شهيد، فافخر أيها الأب العظيم بأنك والد الشهيدين.
رسالة شهيدٍ إلى أمه:
أمي الغالية! يا رمز الرقة والعطف والحنان والإنسانية التي لا حدود لها!… يا ينبوع عظمةٍ ورقَّةٍ ومحبةٍ لا تتكسر معانيها السامية على صخرة الحزن وحراب الفراق التي عادةً ما تنهش القلوب والأرواح… أماه يا أجل وأقدس وأسنى وأبهى ملاكٍ في الكون… يا عنوان العطاء الدائم، ورمز الحنان الذي لا ينفذ… يا صدراً لطالما غمرني بحبه ورعايته وحنانه وإنسانيته…
أماه يا أروع سيمفونيةٍ عزفت بها حناجر جميع المخلوقات… أعتذر سلفاً وأقبل يديكِ الطاهرتين ومنديلك المكلل بالغار والياسمين… أستميحكِ عذراً إن كنتُ رحلت قبل أن أودعكِ… أدرك كم هو مؤلمٌ أن يغيب الابن عن نظر والدته وإلى غير رجعة، وأدرك أيضاً كم يكون الجرح نازفاً وعميقاً في قلب كل أم تفقد إحدى فلذات كبدها.. لكني أدرك أيضاً كم هي المكانة التي يحتلها الشهيد رفيعةً، وكم يحق للأم أن تفخر بأن ابنها شهيد… أعلم أنك تأملين أن أكون إلى جانبك بعد أن تكبري لتستعيني بي على الشيخوخة، لكني أدرك أيضاً أن الحياة بلا كرامة لا تستحق أن تعاش… أنتِ التي زرعتِ في أعماقي معاني الرجولة والشهامة والإقدام ليبقى العرض مصاناً من دنس العابثين… بئسَ الحياةُ التي يسرح فيها بعض الخونة المأجورون كما يشاؤون… يعيثون قتلاً وفساداً وتخريباً واعتداءً على الممتلكات العامة والخاصة… لا أستطيع أن أرى أو أن أسمع بثلةٍ من المجرمين ينتهكون عرضاً لأنه قد يكون عرض أمي أو أختي أو ابنتي أو زوجتي أوأية مواطنةٍ سورية، فكل مواطنة سورية هي أختٌ لي وواجب علي أن أحميها من شر أولئك المأجورين…
عذراً أماه الغالية… لقد آثرت الرحيل وإلى غير رجعة لأن الواجب ناداني، وأنا على يقين أنك تُكْبـِرِيْنَ فـيَّ تلبية نداء الواجب… ولطالما كنت تتحدثين عن عظمة الأنوثة السورية التي حوّلت مواكب الشهداء إلى أعراس وطن، حيث تستقبل الجثامين الطاهرة بالزغاريد لا بالدموع، ويتقبل أهالي الشهيد المباركة والتهنئة باستشهاد ولدهم لا العزاء بفقدانه، لأن الشهداء خالدون عند الله والبشر…
أماه الحنونة!… كأني بك تفكرين إن كنتُ تعذبتُ وأنا أفارقُ الحياة، فاطمئني يا رمز الحنان والإنسانية… بكلِّ رفق ولطف وحنان خرجت الروح من جسدي… تذكرت طفولتي الأولى آنذاك، وكيف كنت أمتص حليب الكرامة والكبرياء والأثرة والعطاء من صدرك الثرِّ الزاخر بكل معاني السخاء بلا حدود… بالطريقة ذاتها غادرتُ هذه الدنيا الفانية، مَلَكُ الموت كان رحيماً شفوقاً.. قبض الروح بلطف قبل أن يفكر أعداء الله والوطن بالتمثيل بجسدي، فلا تحزني ولا تبكي، لأني لم أشعر بالألم ولا بالعذاب، بل على العكس تماماً… صورٌ شتى رائعة عرضت علي واخترت ما يناسبني لأنتقل من دار العناء إلى دار الخلود، وطيف روحي سيبقى يرفرف حولك لتطمئن الروح المخلدة عليكِ، وليستمد منكِ أخوتي وأبناء جيلي معاني الصبر والجلد والتسامي فوق الجراح كي يزهر الوطن، وينعم أطفاله بمستقبلٍ آمنٍ مشرق…
رسالة شهيدٍ إلى ابنه:
بُنيَّ الغالي.. يا أجمل هديةٍ في الكون وهبني إياها الخالق… يا بسمة الأمل التي زرعها الله على وجهي عندما أطلقْتَ صرخَتَك الأولى وأنتَ تفتحُ عينيكَ على النور… إيهٍ بني الحبيب!.. قد تصلك كلماتي هذه في وقتٍ أنت أحوج ما تكون لأن تركض باتجاهي وتلقي بنفسك في حضن أبيك… تشتم رائحة عرقه، وتكرر قولتك المشهورة: عرق الرجال أزكى عطر في الكون… لكأني بك تمسك بثيابي العسكرية تشتم رائحتها وتمسح وجهك النضر بها وتقول: انتظرني قليلاً، سنوات عدة فقط وسأرتدي هذه البزة العسكرية وأكون رفيقك في السلاح، وأنا على يقين أنك ستنجز ذلك…
بنيَّ الغالي لك قبلاتي وأشواقي وحبي الذي لا يعرف حدوداً… مراراً كنت تقول لزملائك هنيئاً لابن عمي لأنه أصبح ابن شهيد، فمن حقه أن يفخر ويتباهى لأن والده استشهد كي نعيش نحن بأمان… وها أنت اليوم تدخل هذه الحديقة الغناء التي تجمع أبناء الشهداء، فحذارِ أن تذرف دموعك… وحذارِ أن تظهر يوماً بمظهر اليتيم، فأنت اليوم ابن الوطن الذي يكرِّمُ شهداءه بأجلَّ ما عرفته البشرية من تكريم…
إيهٍ بني الحبيب!… ها أنت اليوم تتحمل مسؤولية متابعة الدرب، فالأمانة حُمِّلَتْ على كتفيك، وأنت أهلٌ لها… آمل أن تبقى كما عهدتك متفوقاً في دراستك، لأن التفوق في التحصيل العلمي هو الوجه الآخر للتضحية والفداء… لا تنسَ أيها الأملُ المتوثب أن تمسح كل صباح على شعر شقيقتك، وأن تضم شقيقك الأصغر وتمضوا جميعاً إلى المدرسة مودعين أمكم بقبلاتكم الطفولية الممزوجة بعبق الشيح والطيون والبنفسج والنرجس البلدي المزدان بوعودكم بأن تكونوا الخلف الصالح الذي يفخر بانتمائه لهذا الوطن الشامخ الأبي…
تذكر دوماً بني الحبيب أن والدك استشهد دفاعاً عن الوطن وأطفال الوطن وحاضر الوطن ومستقبله…تذكر أن والدك ورفاقه الشهداء الأبطال قد قهروا الإرهاب التكفيري ورعاته وداعميه لتبقى سورية عرين الأسود، وتذكر أن تكامل الأدوار يُحَمِّلُ الراية للنشئ الجديد من أبناء جيلكم من الشباب المتوثب لصون الأمانة وتأدية الرسالة وإكمال درب التضحية والفداء لتبقى راية الوطن خفاقة في سماء المجد والعزة والسؤدد والخلود.
رسالةٌ جوابية:
إليكَ أيها الشهيد الخالد في الفردوس الأعلى… إليكَ يا قنديلاً ينير الدرب أمام الأجيال المؤمنة بحقها في الدفاع عن الوطن وتحصين سيادته… إليكَ تحية الحب والإجلال والإكبار من الوطن بجميع مكوناته… فَلَكَ ولرفاقك ترفع أسمى آيات التقدير والعرفان بتضحياتكم التي تفوق كل وصف… لكم المحبة والتقدير والمكانة الرفيعة في قلوب جميع أبناء الوطن: كلِّ أب، كلِّ أم، كلِّ أخت، كلِّ أخ، كلِّ ابن، كلِّ ابنة، كل صديق، كل رفيق درب… لكم التحية من كل زهرةٍ من أزهار هذا الوطن، من كلِّ زنبقة وسوسنة، من كلِّ شجرةٍ وجدول ماء، من كلِّ ذرة تراب وحصاة… لكم التحية والإجلال والتقدير من شعبكم الأبي الذي يشد عضده بكم يا حماة الديار وعنوان الكرامة ورمز الشجاعة وأسَّ البطولة ومنطلق التضحية والبذل والعطاء والسخاء… بدمائكم الزكية استطعنا أن نحمي وحدة الوطن… بأرواحكم الطاهرة أسقطنا المؤامرة والمتآمرين… بتضحياتكم أيها الخالدون بقيت ابتسامات أطفال الوطن مرسومة على محياهم… جراحكم النازفة ودماؤكم التي روت ثرى هذا الوطن الأبي زادته منعةً وصموداً وقدرةً وفاعلية…
أيها الشهداء الخالدون!
أنتم الأبقى وإن رحلت أجسادكم الطاهرة، فذكركم العطر سيبقى حاضراً في كل بيت… بطولاتكم ستبقى حديث الأجيال… إرثكم النضالي المشرف سيبقى جزءاً أساسياً مكوناً في ثقافة السوريين… فلتقرَّ أعينكم وأنتم في فردوس خلدكم… لتطمئن أرواحكم الطاهرة فأبناؤكم موضع اهتمام القيادة ورعايتها… أهلكم هم أهلُ كل أبناء الوطن، وسيبقون دائماً محاطين بكل احترامٍ وتقديرٍ وتبجيل لأنهم أنجبوكم أيها الأبطال الذين بدماؤكم وتضحياتكم حافظ الوطن على وحدته وسيادته وكرامته… فإليكم يا أكرم الكرماء وأشرف الشرفاء… إليكم يا قناديلنا إذا ادلهمت الظلمة… إليكم يا مشاعل النور والهدى ترفع أسمى آيات التقدير والتبجيل، وتنحني الهامات أمام عظمة تضحياتكم أيها الخالدون.. فلتطمئن أرواحكم الطاهرة في فردوس عليائها إلى أن الأهداف النبيلة والسامية التي استشهدتم من أجلها ستبقى في أرواحنا ووجداننا وفكرنا.. سنحول بطولاتكم وتضحياتكم من ذكرى إلى ذاكرة، وسورية الأسد التي عُرِفَتْ بوطن الشهداء أصبحت موطن الشهادة وقيمها، ولكي تبقى سوريتنا حصينة منيعة سنثبت للعالم برمته في السادس والعشرين من أيار أن الاستحقاق الدستوري المقرر للانتخابات الرئاسية سيكون الشاهد على وفاء السوريين لقيم السيادة والكرامة والعزة الوطنية التي استشهدتم في سبيل صونها والدفاع عنها.. فالنهج مستمر، والأمانة محفوظة يا شهداءنا الأبرار.