العميد الركن ناجي الزعبي | باحث اردني في الشؤون السياسية والعسكرية
كان صباحاً ” عسكرياً” نمارس به واجباتنا اليومية المعتادة حين لمحت الملازم تيسير قادماً من قيادة الكتبية وعلامات الجدية – غير المعتادة – تبدو على ملامحة ، اقترب مني وقال :
يلا على قيادة الفرقة ، ومضى لا يلوي على شئ .
لحقت به وانا مندهش .. وبداخلي تساؤل مجنون هذا ام ماذا؟
وفي الاثناء لمحت وكيل القوة قادم من بعيد باتجاهي ..اقترب وادى التحية وقال :
ناجي افندي بدهم ياك بقيادة مدفعية الفرقة ثم ادى التحية وانصرف .
اتجهت بدوري لمبنى القيادة ودخلت مكتب المقدم خلدون الجندي .
اديت التحية وقلت صباح الخير سيدي .
قال : اهلا ملازم ناجي
يريدونك بقيادة الفرقة .
قلت :بغرفة العمليات؟
قال : راجع رئيس اركان الفرقة.
لم استغرب الدعوة فقد كنا الملازم تيسير وانا نديم مع ضباط اركان الفرقة غرفة العمليات بشكل مستمر وتوقعت ان هناك احداثيات جديدة ينبغي العمل على تثبيتها على لوحة الخرائط .
اتجهت لقيادة الفرقة وعندما دخلت المبنى تبين لي ان رئيس شعبة العمليات بانتظاري .
استقبلني بحفاوة وقال : سنذهب معاً لقائد الفرقة.
ادهشني ذلك فمالذي يريده قائد الفرقة مني ؟
وذهبنا معاً ، دخلنا لمكتب القائد وادينا التحية معاً.
قال وابتسامة ودية ترتسم على وجهه: تفضلوا.
جلسنا وانا متلهف لمعرفة ماذا يريد قائد الفرقة مني فأنا من مرتبات المدفعية ولست من مرتبات الدروع .
قال : ملازم ناجي اخترناك لتذهب لسورية للجولان فلديك مهمة لتقوم بها وتعود باسرع ما يمكن.
سيشرح لك رئيس الاركان التفاصيل.
ونهض من مقعده ايذاناً بانتهاء المقابلة ومد يده للسلام على غير المعتاد .
وفي مكتب رئيس الاركان تلقيت تعليمات المهمةبكل تفاصيلها مع كتاب لقيادة الجيش السوري .
وقال سنجد امر ارسالك بقيادتك اتمنى لك التوفيق ، عد سالماً باسرع ما يمكنك .
كانت السياره العسكريه التي اقلتني ” الروفر شاصي قصير” كما كنا نطلق عليها تجتاز الحدود الاردنيه السوريه الى الجولان ,حيث كنت في مهمة عسكريه تمهد لدخول قطعات عسكرية اردنيه وعربيه للمشاركه في القتال ضد العدو الصهيوني الى جانب القوات السوريه .
وكنت قد اودعت احلامي وآمالي ، واوصدت الابواب على اسراري الصغيرة وعلى قصص العشق والذكريات وطويت كل الملفات على مفترق الطرق التي سأعبرها لغد اجمل ، او ربما تأخذني رحلتي لعالم آخر ..
منذ ان ابلغت بالمهمة من قبل قيادة الفرقة الثالثة التي شاركت بالمعركة ، وقد كانت تلك تجربتي الاولى للمشاركة في معركة حقيقية ومهمة دقيقة بهذا المستوى .
كانت السيارة تطوي الطريق وتطوي معها حكايتي في عمان الحبيبة التي ما ان ابتدأت حتى انتهت، وكأنها نبت لا يريد ان يرى النور ، وان يبرعم فرحاً … حاولت جاهداً ان انحي ذكرياتي وانصرف للقادم ولم افلح ، الى ان انتزعني صوت السائق وهو يلقي بتحية المساء على الجنود
عند نقطة الحدود السوريه .
افسح مسؤول الحاجز العسكري الطريق بعد اداءه التحية العسكريه وأزالته الحاجز دون اي سؤال ، كان واضحاً ان تعليماته تقضي بذلك ، وكان ذلك مدعاة للتأمل فقد ازالت وحدة الدم الحواجز المصطنعة ، وكان موجعاً ان تكون المعركة وليس السلم والنهوض والبناء والتنمية والتكامل الاقتصادي من فرض الوحدة وازالة الحواجز والحدود واعادة الامور الى ما كانت عليه قبل سايكس بيكو.
كان استقبالنا الدافئ على الحدود تجسيداً لوحدة المصير والدم والعدو الصهيوني المشترك
رغم تواضع رتبتي وسني الا ان ردة فعل رجال الحدود السورية عند مرور سيارتي العسكرية بعثت بنفسي الاعتزاز والفخر .
عدت لشريط ذكرياتي بعد عبورنا الحاجز
وكيف انتزعت نفسي من احضان رفيق السلاح وصديقي الملازم تيسير ابو شقرة وهو يودعني بمحاولته اضفاء لون من الدعابة على وداعنا المؤثر حين قال :
عيش يا عمي رح ترجعلنا شهيد ونفرح فيك ..
ولمحت دمعة تفر من عينيه وهو يتابع قائلاً : هو الله برمي الناس بحجار يا زلمة دايماً مقلق منامي ومقلق منامها وغمز بعينه ..ثم استدار وهو يشهق بدموعه رح انام ليلي الطويل … والله رايح يفتح على بنت الحلال الي الله خلصها منك ..ثم استدار ومضى لا يلوي على شئ .
كان ذلك موقفاً درامتيكياً متوقعاً نظراً لحداثة عهدنا بالجندية وقساوتها وقلة خبرتنا وتمرسنا
استمرت السياره في سيرها تتهادى باتجاه الشيخ مسكين , وقد ابدى ىسائقها الرقيب “على ” سعادته مما جرى على الحاجز قائلا : هذا هو الوضع الطبيعي سيدي , نستقبل بعضنا البعض دون حدود واجراءات , وتؤدى التحايا للضباط , وتزول الحدود .
يارب تزول كربة سوريه وتستمر الوحده بيننا .
تبسمت وابديت سعادتي بأيمائة من رأسي , دون ان انبس ببنت شفه , فقد اخذ القلق يساورني كلما اقتربنا من ميدان القتال , كانت وجهتنا هي جبهة المعركة , وكانت مهمتي الاتصال بقيادة العمليات على الجبهة وكنت ادرك دقة المهمة وصعوبتها .
كان ازيز الطائرات يكاد لاينقطع , ودوي المدافع والدبابات يزداد وضوحا , ولم يكن ذلك امرا يبعث على السعاده .
اجتزنا الشيخ مسكين باتجاه الغرب واخذنا نسلك طرق غير معبده مما فاقم قلقي , تبدت معالم الجبهه واخذت ارى قذائف الدبابات وهي تتساقط والطائرات تقذف حممها , ساورني الخوف , فهي تجربتي الاولى , لكننا واصلنا المسير , واطبق الصمت على كلينا فقد كانت معالم المعركه تتضح .
فجاه شاهدت صبية سورية بالزي الشعبي السوري لم تتجاوز العقد الثالث ترعى قطيعا من الغنم وسط كل هذا الجحيم , كما لاحظت مجموعة من العمال يعبدون طريقا ترابيه ومن بينهم فتيات يحملن اوعية تقطر سائلا” مغليا” ويعملن على القاءه فوق الرمال , كان هذا امرا مدهشا ويحدث فقط في سوريه .
خجلت من خوفي , والفتيات السوريات يمارسن اعمالا”بالغة القسوه في اجواء المعركه ووسطها وهو امر لا يكاد يصدق ! وانا ضابط ومقاتل , فانتزعت خوفي ومضيت في طريقي.
في سوريه وحدها تزول الفوارق الى حد بعيد بين الرجل , والمرأه , وبين المسلم , والمسيحي , والطوائف , والمذاهب والاديان ,ويسكن العرب الوجدان السوري .
وصلت لاقصى نقطة كان يمكن الوصول اليها وكان لابد من الاهتداء لقيادة منطقة العمليات وكانت تلك معضلة فلا يوجد عسكريين لأسألهم ولايوجد حتى مدنيين ، فاخذنا نبحث عن اي معلم او اي احد ليرشدنا لكيفية الوصول لهدفنا ، لاحظت بالاثناء اكداس الذخائر المعدة في مناطق القتال دون حراسة ، وكان ذلك مدعاة للدهشة التي زالت بعدان ادركنا السبب .
فقد التقينا احد السوريين فتوقفنا قربه وترجلت من السيارة وحييت الرجل وسالته عن قيادة منطقة العمليات فأجابني بانه لا يعلم ،تركته ومضيت بين القرى المتناثرة لابحث عن شخص آخر ، وعند عثوري عليه تكرر نفس المشهد ، التقيت آخرين وحصلت على نفس الاجابة. اخذ الوقت يمضي وازدادت مهمتي صعوبة فقد كان لا بد من معرفة مكان قيادة العمليات وعند اول شخص قابلته اضطررت لشرح مهمتي وابرزت كتاب قيادتي العسكرية الذي يثبت تكليفي بالمهمة لكن الرجل قال لا تحاول معرفة مكان اي قيادة عسكرية فلن يخبرك احد بمعلومة من هذا النوع ، تبين لي مدى حس شعبنا السوري الامني ووعيه العالي بضرورة الحفاظ على الاسرار العسكرية وكانت اكداس الذخيرة بين القرى دليل على ذلك فقد كانت بأمان تام وفي رعاية المواطنين ، اصر الرجل وتحت الحاحي صدمتني اجابته قائلاً : ما بحسن اقلك !!حاول ان تجد عسكرياً يرشدك .
الى ان التقيت احد العسكريين الذي رفض اجابتي لكنه اخذني لضابط ، ومن ثم اخذني الضابط لقيادة فرعية اجرت اتصالاتها واخذوني للقيادة المعنية التي استقبلتني بترحاب بالغ ومكنتني من انجاز مهمتي بنجاح .
بعد فترة وجيزة من مهمتي التحقت قطعاتنا بالجيش السوري وكان اللواء المدرع ٤٠ ومدفعية الفرقة الثالثة وقطعات الاسناد والتزويد ، ثم جرى تعزيز القطعات بباقي جسم الفرقة وكانت قوة ذات شأن نفذت عمليات قتالية مشتركة مع الجيش العراقي ودحرت العدو وازالت خطر تطوير هجومة ،
ارتقى عدد من رفاقنا بالعمليات العسكرية التي قام بها اللواء المدرع ٤٠ بقيادة قائد اللواء خالد هجوج المجالي واصيب قائد سرية المدفعية الثقيلة النقيب محمود خريسات بجروح نظراً لتعرض سريته لقصف مدفعي بمجرد احتلالها لموقعها .
خضنا المعركة معا بعد ان التحقت القطعات بالجبهه , سوريين , وسعوديين , وكويتيين , وفلسطينين , وعراقيين , واردنيين , ومغاربة .
ذابت اسماء البلدان والاقطار وتلاشت موضوعياً وذاتياً واصبحت جسداًعربياً وكتلة كفاحية وقوة وحالة فريدة مفعمة بروح الفداء والتضحية ، واختلطت الدماء في ابهى مظاهر للوحدة العربيه , ذودا” عن دمشق , وحلب , وباقي التراب السوري , وعن شرف العرب , , فقد كان المصير مشترك والعدو واحد , صهيونيا , اميركيا , ورجعيا” عربيا” ,كان , ولا يزال , وسيبقى.
في احد الامسيات عدت من اجازتي القصيرة من اربد وقد كنت منهكاً فاستلقيت على سريري للحص على قسط من الراحة ، وبعد مضي عدة دقائق وجدت ضابطاً سورياً يقف على باب خيمتي بزيه الميداني وسلاحه الشخصي وابتسامته العريضة بادرني بالقول :
انت ناجي اليس كذلك ؟
قلت : وانت اسماعيل؟
قال : نعم .
كان رفاق السلاح قد اخبروني بالتحاق فصيل صواريخ سوري بنا بقيادة المهندس الملازم اسماعيل وهو يحمل نفس افكارك الجهنمية وكان تيسير صاحب نظرية انتي احمل افكاراً جهنمية
قلت لتيسير : ارهابي يعني.
قال : بالضبط تماماً مثلك .
ارتبطت بعلاقة وثيقة جداً باسماعيل فقد كانت لقواسمنا الفكرية المشتركة الفضل في تلك العلاقة الوطيدة التي امتدت لهذه اللحظة .
في 1 /1 /1974 , غادرنا سوريه بعد نهاية المعركه بعد ان اودعنا دم الشهداء ذمة المجد , محملين بذكريات المعركه وصداقات وعلاقات رفاقيه بالغة الروعه كل الى وطنه .
وغادرت معهم بعد ان امضيت ليلة رأس السنه مع قائد فصيل الصورايخ السوري الملازم المهندس اسماعيل شيخ خضورهو وجنوده في مغارة على الجبهه في سهرة تاريخية امتدت للصباح تحت القصف المدفعي والجوي .
كانت امسية عربيه اودعنا بعدها اشواق الوحدة وتوقنا لها , ودماء الشهداء واحلامهم , وآمالهم التراب السوري .