تقارير

دور انيس النقاش في عملية خطف وزراء النفط . فيينا 1975

مصادر روسية متابعة لمضمون الاتصالات واللقاءات التي يجريها المعنيون بملفات الشرق الأوسط في موسكو مع اطراف سياسية لبنانية متنوعة، تؤكد انّ موقف الخارجية يتمثل في حَض أطراف النزاع على التواصل المباشر للتوافق حول ملفات الداخل من دون الاستقواء بالخارج، وان تكون التسوية ضمن أطر دستورية تحفظ حق جميع المكونات الاجتماعية والسياسية بلا استثناء. وترى المصادر انّ موسكو ليست في وارد طرح اي مبادرة تجاه لبنان في هذا التوقيت، لكنها لا تستبعد توسيع حركة اتصالاتها مع الأطراف المعنية لتكوين مساحة مشتركة يُبنى عليها لوضع أسس متينة لتوافق داخلي يتيح للبنان مواجهة التحديات التي تعصف به منذ تشرين الأول 2019.
وتؤكد المصادر ان ما يروّج عن مواقف ومطالب روسية محددة سمعها وفد «حزب الله» في موسكو تجاه دوره لاحقاً في سوريا غير دقيق، اما ما يتعلق بلبنان فإنّ مضمون اللقاءات مع ممثلي الحزب تمحور حول رؤية الطرفين لطريقة الحفاظ على التوازن الداخلي وفقاً للآليات الدستورية والعمل على عدم انزلاق الاوضاع الى مستويات خطيرة. وتؤكد المصادر انّ توسيع مروحة الاتصالات التي يجريها المسؤولون الكبار في الخارجية الروسية هدفه حَض المعنيين على المساهمة بفاعلية في مسار تدوير الزوايا بين الأحزاب والتيارات المختلفة لإطلاق حوار صريح وشفاف يضمن عملية ترتيب البيت الداخلي وتحصينه اقتصاديا وسياسيا، خصوصا انّ المؤشرات تدل الى انّ المنطقة عموما قد تشهد تحولات كبرى على اكثر من صعيد خلال المرحلة المقبلة.
كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد رفعت في عام 1968 شعار «وراء العدو في كل مكان»، وأسندت لقائدها التاريخي وديع حداد (أبو هاني)، الذي كان من رفاق جورج حبش ومن مؤسسي الجبهة، مهمة العمليات الخارجية. فيما بعد، سيحدث خلاف حول هذه العمليات ما بين قيادة الجبهة الشعبية ومجموعة وديع حداد، وسيُفصَل وديع حداد من الجبهة ولكنه سيستمر وفصيلَهُ في شن العمليات تحت مسمى المجال الخارجي للجبهة الشعبية. وسيصبح تنظيم وديع حداد مصدر جذب الثوريين الحالمين من مختلف أنحاء العالم؛ وكان كارلوس الفنزويلي من بين هؤلاء.

جاء إيليتش راميريز سانشيز- كارلوس من اليسار الماركسي، وكان ضمن ثلاثة إخوة سماهم أبوهم فلاديمير وإيليتش ولينين، على اسم زعيم الثورة البلشفية. وجاء من أوساط العمل الثوري المباشر المرتبطة بالجماعات الطلابية الأمريكية-اللاتينية والأوروبية، ليصبح «الإرهابي» الأشهر إعلاميًا، إثر مجموعة من العمليات التي نفذها ضمن نشاطه في إحدى خلايا العمل الخارجي للجبهة الشعبية. وكان على العكس من رفيقه اللبناني يحب الظهور والصخب والاستعراض.

التقى الاثنان في فيينا للتحضير للعملية، وبعد أن استطلعا مقر الأوبك جلسا في مقهى قرب المقر. بدأ أنيس النقاش في طرح رؤيته للعملية؛ وقدم لرفيقه تحليلًا يقول إن العملية لو سارت كما خُطِّطَ لها وانتهت بإعدام وزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني في بغداد أو عدن فإن ذلك من شأنه توتير العلاقات العربية-العربية، وبالذات إن تم الإعدام في عدن فقد يورط حكومة اليمن الجنوبي التي كانت في ذلك الوقت حاضنة الثورة وقاعدة عمليات وديع حداد (كان هناك كذلك قرار بإعدام وزير النفط الإيراني جمشيد أموزگار، وكان النَقَّاش يخشى إن تم ذلك أن يجر العراق إلى صراع هو في غنى عنه مع إيران الشاه). كان هذا اقتراحًا ضمنيًا من «الرفيق خالد» إلى «الرفيق سالم» بعدم تنفيذ الأوامر، رد عليه كارلوس بقوله «من الواضح أنك تفهم في السياسة كثيرًا» (وهو ما فهمه النقاش موافقةً ضمنية على اقتراحه)؛ ثم قدم له كارلوس في المقابل قراءة ميدانية تقول إنه لو كشف عن شخصيته أثناء العملية، مناقضًا بذلك الأوامر التي تحتم السرية، فإن اسمه سيرهب الخصوم. فأيده النقاش في ذلك التحليل. يقول أنيس النقاش في حديثه الصحفي مع غسان شربل في مجلة الوسط «وكان أن أيد واحدنا الآخر دون إعلان ذلك. وكانت المعضلة تكمن في أنني لا أستطيع الطلب منه مخالفة الأوامر وعدم اغتيال الوزيرين، ولا هو يستطيع أن يلقي عليّ مسؤولية الكشف عن نفسه في المفاوضات».
وتمت الأمور على هذا النحو، وإن كنا لن نعرف يقينًا إن كان كارلوس قد أحجم عن إعدام الوزيرين اقتناعًا بتحليل أنيس النقاش أم لأن التعقيدات الميدانية التي واجهها الفريق (بما فيها عدم وفاء الحكومات الحليفة للعمل الفدائي بوعودها) حالت دون الإقلاع إلى بغداد أو عدن. أدى كشف كارلوس عن هويته وإحجامه عن قتل الوزيرين «المعاديين» إلى خلاف مع قيادة المجال الخارجي، وإلى سلسلة من اللقاءات بهدف نقد وتقييم التجربة، انتهت بمفارقة كارلوس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبدأت بذلك مرحلة أكثر خطورةً وغموضًا في مسيرة كارلوس، الذي بدأ بنسج شبكاته الخاصة العابرة للحدود والقارات.
يقول النقاش إنه أنهى العملية متعمدًا في الجزائر، بخلاف التعليمات، بعد أن رضي عن نتيجة المفاوضات التي توسط فيها وزير الخارجية الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، ويقول كارلوس إنه أنهى العملية هناك اضطرارًا بسبب التعقيدات الميدانية ومناورات الحكومتين الليبية والجزائرية، والإرهاق الذي اعترى فريقه؛ وستظل العملية مصدر غموض وروايات مختلفة.

عملية فيينا: البحث عن الهدف
لا يقتصر الغموض الذي اكتنف العملية على بعض التفاصيل، ولا على تضارب روايات الرجلين[2] ولا تضارب أسلوبيهما في العمل والسرد. البحث في أهداف العملية بحد ذاته يكتنفه الغموض. فلماذا استهداف الأوبك؟ ولماذا اغتيال الوزيرين السعودي والإيراني؟ ولماذا عملية فيينا؟
في سلسلة لقاءاته مع أعضاء سابقين في المجال الخارجي للجبهة الشعبية (نشرت في مجلة الوسط ضمن سلسلة «يتذكر» ثم جمعت بعد ذلك في كتاب بعنوان «أسرار الصندوق الأسود»)، ينقل غسان شربل قول أحدهم إنه «كان هناك تحليل سياسي يقول إن الأوبك منظمة راضخة للإرادة الأميركية في تحديد أسعار النفط، بدل الاهتمام بمصلحة الدول المنتجة، وإن النفط العربي لا يجوز أن يبقى خارج المعركة». وبينما يبدو هذا «التحليل السياسي» غامضًا ومحيرًا في ألفاظه وصياغته، فإن فيه إشارةً، ربما، إلى موافقة معظم الدول العربية في منظمة الأوبك على كسر الحظر الذي كانت دول النفط العربية قد فرضته على المعسكر الغربي، نتيجة دعمه للكيان الصهيوني. ويبقى الانطباع سائدًا إلى الآن بأن هذه الموافقة جاءت بتغطية من المملكة العربية السعودية، ممثلة بوزير نفطها أحمد زكي اليماني، بينما لم توافق ليبيا التي قيل إن نظامها شارك في التخطيط لعملية فيينا، على كسر المقاطعة.
وفي الحوار نفسه ينقل غسان شربل عن أحد الأعضاء السابقين أنه حين «نقل كارلوس رسالة [من وديع حداد] إلى مسؤول في العمل الخارجي، سأله المسؤول ما الهدف من العملية، فقال إصدار بيان عن النفط. قال له المسؤول هل يعقل القيام بعملية بهذا الحجم لإصدار بيان ننشر مثله دوريًا في مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة؟ يمكن تبرير العملية مثلًا، لو قلتم إنكم تستهدفون تصفية وزير معادٍ». وبحسب هذه الرواية، فإن فكرة إعدام اليماني جاءت من هنا. يقول كارلوس في حواره مع غسان شربل بالمراسلة إن منظمي العملية قرروا اغتيال اليماني بسبب «دوره في تقديم ياسر عرفات إلى المغفور له الملك فيصل، مما أوقع منظمة التحرير تحت ثقل جارف اكتسبته منظمة فتح بما حصلت عليه من أموال خليجية، ومما جعلها قوة مناهضة للناصرية» (بمعنى آخر دوره في محاولة استيعاب الثورة الفلسطينية واستئناسها، ممثلة بشخص ياسر عرفات ودوره في أن تضع دول الخليج ثقلها مع القيادة العرفاتية على حساب القوى الأخرى الأكثر جذرية) و«دوره بعد اغتيال الملك فيصل في تغيير السياسة البترولية القومية التي سطرها المغفور له» (بمعنى آخر دوره في رفع حظر البترول عن دول الغرب).
يبقى الهدف في هذه الرواية غامضًا، ويبدو كما لو أن الثورة الفلسطينية في مرحلة تنامي شبكاتها الدولية جرفتها قوتها إلى ضرورة القيام بعملية بهذا الحجم، ثم باتت تبحث لها عن غطاء سياسي. وبالفعل يطغى الجانب العملياتي في رواية أعضاء المجال الخارجي السابقين لأهداف العملية؛ إذ أراد وديع حداد بحسب رواية هؤلاء الأعضاء تأسيس دوائر للعمل الثوري تتعدى حدود الجبهة الشعبية وحدود المجال الخارجي للجبهة، وتتعدى كذلك الثورة الفلسطينية ذاتها، ومن ثم كان اسم «ذراع الثورة العربية» الذي قاموا بالعملية تحته، وكانت الاستعانة بأفراد من خارج التنظيم، مثل أنيس النقاش، ومن خارج الوطن العربي (بالإضافة إلى كارلوس، شارك في العملية رفيقان ألمانيان جاءا من تنظيم الخلايا الثورية الذي كان وطيد العلاقة بالمجال الخارجي للجبهة الشعبية). فهل تنامت القدرات والطموحات الميدانية للثورة الفلسطينية، وخلايا العمل الخارجي بالذات، فاستبقت الغطاء السياسي الذي جاء مرتجلًا وفضفاضًا ليغطي عملية كان منطقها بالأساس ميدانيًا؟

يلمح النقاش إلى جواب جزئي على هذا السؤال (أيضًا في حديثه إلى غسان شربل ضمن سلسلة «يتذكر») فيقول «اتسمت المرحلة [السابقة على عملية فيينا] بالضبابية، أي بلا أهداف أو عمليات أخرى، إلى أن تقررت عملية فيينا».

أما عن عملية فيينا نفسها، فيورد النقاش رواية مغايرة تمامًا، فيقول إن الهدف من هذه العملية كان ماليًا بحتًا. في حديثه إلى غسان شربل، ثم في حديثه إلى غسان بن جدو على شاشة الجزيرة، ثم في شهاداته التالية، يقول النقاش إن فكرة العملية جاءت حين تنامى إلى المنظمات الفلسطينية وإلى أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية أن المملكة العربية السعودية باتت، في مطلع الحرب الأهلية اللبنانية، تمول حزب الكتائب بحجة محاربة الشيوعية. وكانت العملية، بحسب هذه الرواية، تهدف في الأساس إلى الضغط على النظام السعودي ليكف عن دعم الكتائب، ويعود إلى تمويل المنظمات الفلسطينية. أما عن بيان «ذراع الثورة العربية» الذي فرضت العملية إذاعته، وعن اغتيال الوزيرين السعودي والإيراني، فيقول إنها كانت أهدافًا وهمية للتغطية على الهدف المالي. ولكنه يلمح كذلك إلى أن أطرافًا أخرى تدخلت في التخطيط للعملية وفرضت أهدافًا مناقضة للهدف الأصلي.

قد تتناقض هذه الرواية مع روايات كارلوس وأعضاء المجال الخارجي، الذين يصرون أنهم لم يتلقوا فدية من أي بلد في هذه العملية، ولكن لنتذكر أن الدعم المالي السعودي كان مقتصرًا على حركة فتح من دون الفصائل الأخرى، وأن النقاش ربما يتحدث عن أموال دفعت لفتح لا لحداد ولا لكارلوس. أي أن العملية تمت إما لهدف فضفاض جدًا (تأكيد دور النفط العربي في معركة التحرير) وإما لهدف محدد ومحدود بشكل مبالغ فيه (خلاف مالي مع المملكة العربية السعودية)؛ فهل استنفرت فصائل العمل الخارجي في الثورة الفلسطينية وتجشمت عناء عملية بهذا الحجم، وخطفت الوزراء في عاصمة غربية، وجعلت العالم يحبس أنفاسه، إما لإذاعة بيان تذيع مثله يوميًا، وإما من أجل مطلب مالي محدود؟

تبقى في الحالتين فرضية أن قوة الثورة الفلسطينية هي التي دفعتها، كأنها «قصور ذاتي»، إلى عملية بهذا الحجم ثم دفعتها إلى أن تبحث لها عن مبرر. إلا أن فرضية مختلفة (لا تتناقض بالضرورة مع الفرضيات السابقة) تظهر حين نضع العملية في سياق الوضع السياسي الإقليمي في أعقاب حرب أكتوبر 1973.

ثمة كتاب بعنوان كارلوس، صدر في عام 1998 (أي قبل كل هذه الشهادات) يحكي مؤلفه، إسكندر شاهين، حكاية تزعم أن الهدف الأصلي للعملية كان الهبوط بالوزراء في مطار القاهرة للضغط على أنور السادات، لوقف مفاوضات فك الارتباط مع العدو الإسرائيلي (وقد استشرفت المنظمات الفلسطينية مبكرًا أن هذه المفاوضات بداية لمسير السادات في طريق «الحل السلمي»)، فإنْ رفض السادات يبدأ كارلوس في قتل المخطوفين، فإنْ استمر بالرفض يغادر كارلوس ورفاقه الطائرة لتتفجر بمن تبقى فيها من المخطوفين وطاقم الطيران، ثم تكون مجموعة أخرى قد خطفت طائرة ركاب مصرية لتتفاوض على إطلاق كارلوس ورفاقه (الذين يفترض أن تكون قوى الأمن المصرية قد اعتقلتهم أحياء وحافظت على سلامتهم؟) بالإضافة للمطلب القديم بوقف المفاوضات مع «إسرائيل». لا تبدو لي هذه الرواية قابلة للتصديق، وتبدو أشبه بفيلم إثارة دموي مبالغ فيه، أو بعمليات صبري البنا- أبو نضال (بالذات فيما يتعلق بالإسراف في القتل وتوريط مدنيين مصريين في العملية) من أن تكون خطة رسمتها منظمات العمل الخارجي في الثورة الفلسطينية. إلا أن هذا الكتاب يحوي كذلك تفاصيل لم تكن قد دونت بعد في شهادات واتضح أن بعضها حقيقي والبعض الآخر يقترب من الحقيقة بشكل ما. فربما كانت هذه الرواية غير القابلة للتصديق صدى لحقيقةٍ ما حرفها الرواة، وامتزج بها الخيال الدموي المصاحب لهذا النوع من الروايات.

فهذه العملية، حتى دون شلال الدم الذي تخيله إسكندر شاهين، ودون حتى دماء وزيري النفط السعودي والإيراني، مثلت شكلًا من أشكال الإرهاب والردع للنظام الرسمي العربي عن التفكير في سلوك طريق الحل السلمي،[3] فها هي منظمات العمل الخارجي في الثورة الفلسطينية قادرة على الوصول إلى رقاب رموز النظام الرسمي العربي، وها هي تثبت أن الإرادة لا تنقصها؛ والبيان الذي فرضت العملية إذاعته يصب في هذا الصدد ويحذر، فيما يحذر، من الحلول الاستسلامية ومن النهج الساداتي.[4]

في حوار منسوب إلى كارلوس، نُشر في كتاب «كارلوس الوجه الأخر» لعاصم الجندي،[5] يقول: «كان المطلوب من السعودية وقطر والإمارات أن تصرح كل منها بأشياء ضد سياستها النفطية، وتعطي وعودًا بتأميم النفط في بلادها، وتتعهد بتوظيف سلاح النفط ضد الإمبريالية و«إسرائيل»، ليس فقط كأيام حرب أكتوبر، وإنما بطريقة حقيقية. وتعد بأن تكون أموال النفط، ليس فقط للشيوخ والرأسماليين وإنما لكل الشعب العربي ومساعدة العالم الثالث» ويضيف «أيضًا كان مقررًا أننا إذا بقينا في وضع جيد بعد خمسة أيام أن نطلب عقد اجتماع عاجل لوزراء الخارجية العرب في القاهرة، يعلنون فيه رفضهم لاتفاقية سيناء وجنيف[6] والتفاوض مع إسرائيل. بعد ذلك نذهب إلى أي قطر يمنحنا اللجوء السياسي ونطلق الوزراء الباقين». ثم في مراسلاته من سجنه مع غسان شربل يعود ويؤكد «كان مفترضًا أن تستغرق العملية بين سبعة وعشرة أيام، عقب نهاية اجتماع استثنائي لوزراء خارجية جامعة الدول العربية في القاهرة، للتنديد بتوقيع «اتفاقات الكيلومتر 101 في سيناء» (..) التي مهدت الطريق نحو الخيانة».

إجابات ناقصة
لن نفهم بشكل كامل تعدد الأهداف والحجج فيما يتعلق بهذه العملية دون فهم المستويات التخطيطية والتنفيذية المختلفة للعمل الفدائي في هذه المرحلة. فضبابية هذه العملية وتعدد رواياتها وأهدافها هي انعكاس لتعدد اللاعبين والفرقاء الواقفين وراءها، فمن رئيس الدولة العربية الذي شارك في التخطيط وقيل إنه صاحب الفكرة (ألمح كارلوس ثم صرح المرة بعد المرة بأنه معمر القذافي وكتم أنيس النقاش الخبر إلى أن أخذ سره إلى القبر)، إلى كمال خير بك، عضو الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان يشارك في تخطيط وتنفيذ العمليات الخارجية لأيلول الأسود ثم للمجال الخارجي للجبهة الشعبية (اغتيل في اقتتال داخلي ما بين أطراف الحركة الوطنية اللبنانية في 1980 وأخذ أسراره هو الآخر إلى القبر)، إلى وديع حداد وأنيس النقاش وكارلوس، تعددت الخلفيات والرؤى والأهداف. كلها تفاصيل تحتاج إلى دراسة مفصلة لا يتسع لها هذا المقال.

ولا بد أن نأخذ كذلك في الاعتبار المرونة التنظيمية للعمل الفدائي، التي جعلت أنيس النقاش الفتحاوي يشارك في عمليات الجبهة الشعبية ويخترق، بحسب روايته هو، تنظيمات تعمل داخل إطار فتح وخارجه، لكي يضمن ألا تنجرف إلى أعمال تضر بالعمل الفدائي أو أن تُخترق من قبل أطراف معادية للثورة الفلسطينية. وزعمه أنه اخترق هذه العملية ليعيدها إلى مسارها الأصلي وإلى هدفها المالي بعد أن كانت أطراف أخرى قد تدخلت في التخطيط لتضع رأسي اليماني و أموزگار على قائمة أهداف العملية؛ وأنه إذ أفشل هذه العملية حين أقنع كارلوس بعدم تنفيذ هذه الأهداف، فإنه قد ضمن نجاحها في تحقيق هدفها المالي، وفي ألا تكون سببًا في تأجيج الصراعات العربية- العربية وألا تتلطخ بدماء كانت تستطيع حقنها.

«الأسطورة قد بدأت للتو»
قد نحتاج إلى دراسة متأنية، أو إلى عمل فني ملتزم يتحرر من وصمة الإرهاب ولا ينزلق إلى تمجيد العنف الثوري لذاته، لكي نملأ هذه الفراغات ونستخلص الدروس من هذه المرحلة «الضبابية» من تاريخ الثورة الفلسطينية.

وبغض النظر عن تقييمنا لعملية فيينا أو لهذا النوع من العمليات، يبقى هذا التضارب والتناقض دليلًا على زمن كانت فيه الثورة الفلسطينية تمثل أفق الحالمين والثوريين من كل مكان، وصورة الفدائي مثلهم الأعلى. ولولا ذلك ما اجتمع هؤلاء الأطراف (من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا إلى عالمنا العربي، ومن اليسار الماركسي إلى القومية العربية والسورية، إلى شق من النظام العربي الرسمي أراد أن يظهر راعيًا وحليفًا للثورة) وهذه الرؤى المختلفة والأهداف المتضاربة والروايات المتعددة في مشهد واحد وعملية واحدة.

ولا شك أن المشاركين في هذه العملية كانوا يشاركون كذلك في رسم المشهد الفدائي بكل تعقيداته وجلاله، كُلّ على طريقته. ولا شك أن كارلوس في أدائه الدرامي وهو يغادر مقر الأوبك مرتديًا زي تشي غيفارا وهو يصيح «إلى النصر دائمًا» ويطلق النار في الهواء -فيما يمكن أن يكون تحيةَ للمحتشدين أو تهديدًا لهم، ويمكن أن يكون إعلانًا بزهوه بالنصر أو إصرارًا على مواصلة الكفاح رغم ما اعترى العملية من تعقيدات ومصاعب- كان يصنع للثورة مشهدًا مهيبًا. حتى أن أوليفييه أساياس، في فيلمه «كارلوس» المعادي لفلسطين واليسار الأممي والعمل الفدائي، لم يستطع إلا أن يقدم هذا المشهد جميلًا وجليلًا.

نفس الأمر ينطبق على أنيس النقاش، الذي أراد ألا تتلطخ صورة الثورة الفلسطينية بدماء الوزيرين. بطريقته المختلفة تمامًا، البعيدة عن الاستعراض، وبتحفظه وكتمانه، ثم بظهوره بعدها ليقدم للأجيال القادمة الحكاية بكل جلالها وكل ما اعتراها من خلل، وبنقد واعٍ للذات لا يتبرأ من تجربة الماضي أو يتخلى عن مبادئها كما لا ينكر أخطاءها، كان أنيس النقاش يرسم المشهد الفدائي. وكان هذا لا ينفصل عن جهده منذ التحق بالعمل الفدائي في صباه إلى آخر عمره من أجل زرع فكرة المقاومة ونهجها. خير تعبير عن ذلك كان تغريد نجله على تويتر يوم وفاته: «الأسطورة قد بدأت للتو. لقد زرعت البذور (..) من أجل فلسطين. ومن أجل كل مضطهد على أرض الله».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى